"الحزب الأبيض" اكتسب أزيد من 2 مليون صوت وتفوّق على كل السياسيين البروفيسور طايبي ل"البلاد": هذه ظاهرة وحالة سياسية يجب التعامل معها بجدية
يبدو أن الانتخابات التشريعية الأخيرة، شكلت منبرا للتعبير عن المكبوتات للشعب أكثر من اعتبارها نقطة تحول في تاريخ السياسة في الجزائر، فكان الموعد مناسبا للتعبير الحر وإيصال رسالة مشفرة للمسؤولين للحديث والتعبير عن المعاناة التي يتخبط فيها المواطن البسيط. فقد عرفت انتخابات 4 ماي الفارط ظاهرة ليست بالدخيلة على المجتمع الجزائري، ولكنها لم يسبق أن كانت بهذا الحجم، وتمثلت في عدد الأوراق الملغاة التي تجاوزت مليوني ورقة، وبذلك تكون قد فاقت تشريعيات 2012 ب 400 ألف ورقة. وجد المكلفون بفرز أوراق الانتخابات التشريعية أنفسهم أمام مواقف غريبة وطريفة، فقد احتوت بعض الأظرفة على كل شيء عدا صور المرشحين، فقد وجّه بعض الناخبين رسائل تحوي طلبات الحصول على سكن وعمل، بل منهم من دعم طلبه بصورة للسكن الذي يحلم به، كما وجد بعض المراقبين أشياء دلت على عقلية التقشف الذي بات يعيشها المواطن فعبر عنها حتى في يوم الانتخاب فكانت وصفات الدواء وأغلفة علب الحليب والجبن وحتى شرائح البطاطا حاضرة داخل الأظرفة! أما شريحة أخرى، فقد اختارت أن تعبر عن ميولاتها الفنية ومواهبها في هذا اليوم التاريخي عبر وضع صور ممثلين وكوميديين عالميين وحتى أوراق لعب فاز بها الملك! أما الكلمتان اللتان نالتا أكبر حظ من التكرار في الأظرفة الملغاة فهما: "مانسوطيش" و"سامية مولات الديجي" وهذا ما يؤكد على أن المنتخبين كانوا مواكبين لما هو جديد في الحملة الانتخابية والتفاعلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي أيضا. أما بعض المنتخبين، فقد فضلوا أن يبتعدوا عن السياسة بزخمها الإعلامي ليهيموا في هدوء المشاعر فتحولت الأظرفة البيضاء إلى حمامات سلام تحمل كل أشكال الكلام المعسول الذي على الأرجح أنهم لم يتمكنوا من قوله في الواقع.
قفة فارغة.. وصور الأبناء بدل المرشحين للبرلمان
حصلت المفاجأة بعدم تمكن المترشحين من الحصول على أكثر من 30 بالمائة من أصوات الناخبين، فقد كانت النتائج المسجلة التي أعلنت عنها وزارة الداخلية والمقدرة ب2109917 ورقة ملغاة خلال تشريعيات الرابع ماي الجاري، فيما بلغت نسبة المشاركة الإجمالية في هذا الحدث 37.7 بالمائة، توزعت على 38.25 بالمائة على المستوى الوطني و10.03 بالمائة بالنسبة للجالية الوطنية المقيمة بالخارج التي تحصي قرابة مليون ناخب.
برلمانيون لا يغنون من جوع
ويضاف عدد الأصوات الملغاة إلى عدد الناخبين الممتنعين عن التصويت، إلا أن الأمر لا يعدو أن يكون هؤلاء المصوتين قد أدلوا بأوراق بيضاء، كان هدفهم الحصول على ختم "انتخب" لأسباب إدارية محضة، خصوصا أن كثيرا من المواطنين المغلوبين على أمرهم متخوفون من أن تطلب منهم أوراق الانتخاب في بعض الملفات الإدارية على غرار السكن أو المنح الدراسية أو قفة رمضان وغيرها من الملفات الأخرى التي تتعلق بالحياة اليومية للمواطن. وفي السياق، يرى موسى قادوري، 66 سنة، أب لخمسة أطفال، الذي يرى أن الحياة الاجتماعية للمواطن الجزائري أصبحت تنذر بكارثة كبرى، داعيا إلى ضرورة التفكير في المواطن البسيط المقهور الذي ألزمته الظروف الاجتماعية إلى العيش في عزلة اجتماعية، ولذا فهو يرى أن التصويت بورقة بيضاء مكتوب عليها "انظروا إلينا بنظرة رحمة" الأنسب في هذه الاستحقاقات. فيما ترى "سمية. ق" أن التفكير في الغلاء الفاحش الذي يعيشه الجزائريون أولى من التفكير في البرلمانيين "الذين لا يغنون من جوع وتشرد"، وأضافت "بينما يبقى هم البرلماني البدلة والسيارة الفاخرة والحصانة البرلمانية، أما الشعب "المسكين" فيتعايش مع الأزمات بكل بساطة فقد تعود على ذلك". من جهة ثانية، أراد بعضهم أيضا إرسال رسائل سياسية للمسؤولين المتعاقبين على بعض الهيئات الوزراية، مثلما هو الحال بالنسبة لشخص وضع كيس حليب في ظرف الانتخاب، وآخرون قاموا برسم قفة فارغة وآخر قام بوضع وصفات دواء بينما فضل البعض الآخر كتابة عبارات تهكم ساخرة. وأمام هذه السيناريوهات المتباينة، تبقى رسائل الناخبين قنبلة موقوتة في وجه المترشحين الذين استعملوا كل الأساليب حتى "المزيفة" منها، لإقناع المواطن البسيط، مهما كانت انتماءاته الاجتماعية.
صورة أبنائه بدل صورة المترشحين
في حين اجتمعت آراء المواطنين الذين سألتهم "البلاد"، بين المتحمس واللامبالي، خاصة أن سياسة التقشف جعلت من المواطن البسيط كتلة من الغضب تتأرجح بين الواقع والمستقبل الغامض -حسب بعض المواطنين- وهو حال المواطن "سليمان. ك" الذي قال بلغة شديدة "كيف تريدونني أن أعبر عن صوتي وكل المشاكل والأزمات النفسية والاجتماعية أحاطت بي وبعائلتي التي أصبحت تتنفس الأزمات والمشاكل"، مضيفا "نعم انتخبت كما طلب مني ولكن على طريقتي الخاصة، فقد وضعت صورة أبنائي الذين لا أملك شيئا سواهم فهم أغلى ما عندي"، هكذا عبر لنا سليمان بلغة ساخطة. وبين هذا وذاك، تبقى الورقة البيضاء هي المرشح الناجح باكتساح في برلمانيات 2017، خاصة وقد هزمت كل الخطابات السياسية وبرامج الأحزاب .
البروفيسور محمد طايبي ل"البلاد": هذه ظاهرة وحالة سياسية يجب التعامل معها بجدية
أكد المختص في علم الاجتماع البروفيسور محمد طايبي ل "البلاد"، أن كل ما هو مكتوب أو مرسوم في الورقة الانتخابية يحمل رسالة معينة، فنحن أمام رسائل تعبر عن وضع حال نفسي واجتماعي وسياسي. وأضاف ذات المتحدث "لو كنا نملك مركز دراسات فإن مهمته جمع هذه الأوراق ودراستها بطريقة علمية منهجية"، كما حذر المختص من إهمال هذه الظاهرة، معتبرا إياها حالة سياسية ومجتمعية لها قيمتها ويجب التعامل معها بجدية. وقال المختص في علم الاجتماع إن هناك عدة احتمالات لتفسير هذه الظاهرة، أولها أن "هذه طريقة يعبر من خلالها المواطن الجزائري عن رفضه الحالة التي يعيشها، وبذلك تعتبر الظاهرة من أشكال المقاومة السلبية الهادئة التي يهدف من خلالها صاحب الرسالة إلى لفت الانتباه وتحقيق الحضور بالتعبير عن نفسه". وأضاف "ثاني افتراض يتمثل في اعتبار هذه الحالة سلوك انتخابي غير راقي وغير متحضر يعبر فيه المنتخب عن نقص في الوعي السياسي، أما ثالث احتمال فهو عبارة عن حالة من معارضة الواقع السياسي ورفض النظام السياسي وكل هذا يعبر عن حالة يأس عند بعض فئات المجتمع". وفي حديثه، ركز المختص أن عملية الانتخاب ليست فقط تنافس بين مرشحين ينتهي بفوز وخسارة، بل هو حالة إعادة تصنيع الاجتماع الإنساني ليعيد المجتمع نفسه وينطلق نحو الإبداع والرقي.