رحل عنا الفقيد عبد الحميد مهري البارحة في صمت، مثلما رحل قبله العلامة الشيخ عبد الرحمن شيبان، ورجال نفقدهم كل يوم دون أن نعطيهم حقهم من التقدير والمكانة التي تليق بهم فقد غيّب عنا الموت زعيم سياسي ومفكر قومي أصيل، مثلما غاب عنا الكثير من رجال الفكر والسياسة الكبار، دون أن نستثمر إمكانياتهم الهائلة في ترشيد الحكم وإقامة منظومة ونخبة وطبقة سياسية في مستوى الرهانات الإقليمية والدولية، حيث نجد أنفسنا اليوم أمامها دون سلاح فعال. عبد الحميد مهري السياسي والمعارض الصنديد الذي يعترف له الخصوم قبل الحلفاء بشرف نضالاته عبر مساره السياسي والمهني، قضى حياته في خدمة القضايا الوطنية والمغاربية والقومية من مؤتمر طنجة إلى عشرات المؤتمرات القومية والعربية والوطنية، التي ناضل فيها من أجل خيارات السلم والحكم الراشد والديمقراطية والتعددية الحقيقية. كان كفاحه قبل الاستقلال ونضاله بعد ذلك طريقا حافلا بالمواقف التي لا تصدر إلا من رجال عظام، فقد كان محورا وصوتا موحدا سواء في الإطار المغاربي أو المؤتمر القومي العربي أو الداخل الجزائري. ألحق الإخوة الأعداء ظلما كبيرا بالفقيد وهو ينادي بالمصالحة بين الجزائريين عندما كانت الجزائر على أبواب حرب طاحنة، رفع عبد الحميد مهري الذي تعرض لمؤامرة علمية شعار السلم والمصالحة، شارك في كل الملتقيات والمنتديات التي كانت تنادي بالحوار بين الجزائريين ونبذ العنف في الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها. ما يحز في النفس أن مهري وثلة من خيرة أبناء الجزائر اتهمتهم أبواق الحقد بالخيانة عندما رأوا أن الحوار والمصالحة هما الخيار الوحيد لإخراج البلاد من حمام الدم وذلك عقب الإعلان عن اتفاق سانت إيجيديو رفقة الزعيم حسين آيت أحمد عام 1994، بعدها بسنوات رد الرجل باحترام كبير قائلا: السلطة لم تكن لتقبل بالاتفاق حتى لو اجتمعنا في مكة. ستذكر الأجيال أننا نتأخر كثيرا في تقدير الشرفاء والنزهاء، وأننا نمعن كثيرا في إيذاء أو تهميش الخصوم لقد تحلى عبد الحميد مهري بأخلاق الفرسان الذين ينصرفون باحترام سواء انتصروا أو انهزموا.. وسنتحسر كثيرا كأجيال مرحلة ما بعد الاستقلال على ضياع الكثير من كنوزنا وعمالقتنا لأن الذين مسكوا بزمام الأمور افتقدوا حسن التقدير وهم يبارزون خصومهم وقد انطبق عليهم المثل القائل: من لا يعرف الصقر يشويه.