يختلف الناس اليوم حول قضية الإديولوجيا ‘l'idéologie» هل هي ضرورة في الحياة السياسية أو بالأحرى في المناكفة الانتخابية بين الأحزاب خاصة بمناسبة التشريعيات المقبلة، أم أن الوقت تجاوزها إلى أساليب أخرى في التدافع السياسي. والسؤال الذي ينبغي طرحه على محترفي السياسة عندنا هو: هل من الحكمة والعقل الدفع بالإديولوجيا إلى الدرجة الأولى في الصراع بين فرقاء الساحة السياسية، وجعلها حصان المعركة «cheval de bataille» في المواعيد المصيرية كالتي تنتظر الجزائر. هناك في الساحة السياسية الجزائرية فريقان على طرفي نقيض بالنسبة لمسألة الإيديولوجيا وموقعها في الممارسة السياسية. فالأول يرى أنه لا معنى للعمل السياسي دون إيديولوجيا، ولا بد لكل حزب من منطلقات ومرجعيات فكرية يستند إليها فيما يعتمده من رؤى وتصورات وبرامج لمعالجة مواطن الخلل في الحياة الوطنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من المناحي الحياة. والآخر يرى أن العصر هو عصر التخلي عن الإيديولوجيا، وأنه لا مكان لها في الصراع السياسي الحديث، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع فيما يتعلق بانتظارات المواطنين التي هي ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية وسياسية ولا علاقة لها بالعقيدة الفكرية لكل حزب سياسي. والذي نراه من الحق والعدل فيما يخص هذه المسألة، هو الاعتدال، وهو منزلة بين منزلتين، بين التخلي الكلي عن إيديولوجية الحزب الذي يفقده هويته، وبين الاعتماد الكلي على الإديولوجيا الأمر الذي يفقد الممارسة السياسية معناها العقلاني. فإلغاء المنطلقات الفكرية للحزب بصفة كلية هو تجريد له من هويته الفكرية واجتثاث له من جذوره. وفي المقابل، فإن الدفع بالإديولوجيا إلى المستوى الأول في الصراع السياسي حتى تصبح الوسيلة والهدف في ذات الوقت يعد في نظري شكل من أشكال تحويل «diversion» التدافع السياسي عن القضايا الحيوية للمواطنين وتطلعاتهم إلى الحرية والعدالة والعيش الكريم. زيادة على ذلك، لا يختلف اثنان من أن تجربة الجزائر – خلال تسعينات القرن الماضي – مريرة ونتائجها كانت كارثية على الأرواح والممتلكات، وذلك بسبب شراسة الاستقطاب السياسي الذي كان على أساس الإديولوجيا والإيديولوجيا فقط، ولأن مثل هذا التجاذب لا يؤدي في نهاية الأمر إلى خير، بل يفضي بالضرورة إلى حالات الإقصاء والتنافي والرغبة في استئصال الآخر، وتلك هي الطامة التي توشك أن تذهب بريح الأمة إن استفحلت لا سمح الله. فالحل إذن هو في عدم التخلي عن الإديولوجيا من جهة، لكن في ذات الوقت عدم الزج بها في متاهات الصراع السياسي الانتخابي واستعمالها كرأس حربة في ذلك، بل الحكمة تقتضي زحزحتها إلى المستوى الثاني «second ordre» في المنافسة الانتخابية، والدفع بالممارسة السياسية إلى تدافع البرامج الذي أساسه التنافس على ما ينفع الناس ويخدم مصالحهم الحيوية. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام قوله: «الخلق عيال الله...، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله». فليس المطلوب اليوم من أحد أن يغير من عقيدته السياسية أو أن يخرج من جلده أو أن يتنكر لذاته بقدر ما هو تقديم للأهم على المهم ليس إلا، خدمة لذات المُثل التي يؤمن بها كل فريق. فليطمئن الجميع، فلا الإسلامي سيصير علمانياً إن فعل ذلك، ولا العلماني سيتحول إلى وطني، والعكس صحيح. فلا خوف إذن على الحزب السياسي من زوال هويته الإسلامية أو الوطنية أو العلمانية، لسبب بسيط وهو أن الشعب أوعى من أن يجهل مرجعية كل واحد مهما ضمرت. فالمطلوب في النهاية هو تقديم الرجال والنساء أصحاب الكفاءة والنزاهة، المتسلحين بالرؤى والبرامج التي تحمل الحلول الواقعية لمشاكل الشعب بعيداً عن الطلاسم الإديولوجية والوعود الهلامية «من قبيل ما يطلبه المستمعون»، والتي عادة ما تتبخر صبيحة ظهور النتائج الانتخابية.