الدكتور: محمد بن موسى باباعمي باحث متفرغ، مكتب الدراسات العلمية، الجزائر هذه المداخلة لا تعدو أن تكون مقاربة أوَّلية، لدراسة مدى التأثير والتأثر، في جميع الحقول المعرفية، بين المشرق والمغرب الإباضيَّين، بداية من نشأة المذهب، وانتقال سلمة بن سعد الحضرمي إلى بلاد المغرب، ثم تفرُّغ حَمَلَة العلم المغاربة في غار أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة لمدَّة لا تقل عن خمس سنوات، لينقلوا العقيدة والفقه والسيَر، وغيرَها من علوم العربية والشريعة، إلى مواطنهم الأصلية بالمغرب الإسلامي، وانتهاءً بقطبي المشرق والمغرب في بدايات القرن الماضي: قطبِ المغرب العلاَّمة امحمد بن يوسف اطفيش، وقطبِ المشرق الإمام نور الدين السالمي وهذا الملتقى المبارك مظهرٌ من مظاهر الاتصال والتواصل العلميٍّ والفكريِّ والدعويِّ، الذي لا بدَّ منه لتحقيق مفهوم العالمية للدين الإسلامي، بما تعنيه هذه الكلمة، وبخاصَّة أنَّ قوى الفساد تبسط يدها على ثلَّة من المسلمين الأمازيغ في شمال إفريقيا، وتعمل جاهدة لتنصير السفهاء والبسطاء منهم، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (سورة البقرة، 11). ولعلَّ أهمَّ الأسئلة التي تصبُّ في إشكالية التأثير والتأثر، هي: *هل يوجد بحقٍّ فقه يسمَّى: الفقه المشرقي، وفقه آخر يعرف بالفقه المغربي، داخل المدرسة الإباضية؟ * وبعبارة أخرى: هل معالم وخصائص كلِّ فقه مختلفةٌ عن معالم الفقه الآخر، أم أنهما مجرَّد فقه واحد، بينهما بعض أوجه الاتفاق والاختلاف، ولا يمكن البتة أن نتحدث عن مدرستين متباينتين في الفقه؟ وللجواب على هذه الأسئلة جاءت هذه المداخلة، وبالله نستعين: لا اختلاف في العقيدة والدين: إنَّ المتتبع لمصادر التراث المشرقي والمغربي على السواء يلاحظ بداية أنَّ ثمَّة وحدة عضوية تجمع بين علماء الإباضية، وهي أنَّهم غير مختلفين فيما لا يجوز الاختلاف فيه، وفيما لا يعذر فيه المخالف، ذلك أنَّهم يجمعون على أنَّ الديانة بمعنى العقيدة «اسم يشتمل على ما بانت به كل فرقة من صاحبتها، مما اعتقدوه دينا يدان لله تعالى به، وقطعوا فيه عذر من خالفهم، سواء كان ذلك حقا أم باطلا، أو عمدا أو خطأ» وبالتالي، فلا نكاد نطالع مسألة اختلفوا فيها وهي مما يقطع فيه عذر المخالف، ولقد نستثني مسألة "خلق القرآن الكريم"، التي وقع فيها جدل في كامل التراث الإسلامي، ومن جملة من لفحته نارها الوافدِة من البصرة، أهل عمان في بداية القرن الثالث الهجري، ثم انتقلت المسألة بعد ذلك إلى المغرب. ولقد عُرف بعض التشدد من بعض العلماء في المسألة، حتى اعتبر صاحب الرأي المخالف قد جانب الطريق، وحكم عليه بأحكام المتأوِّل بالخطأ، إلاَّ أنَّ المحققين اعتبروا المسألة مجرد خلاف لفظي، لا غير، ومردُّ الحكم فيها إلى تحديد مصطلح الكلام، هل هو الكلام النفسي؟ أم هو الكلام المتلو باللسان، والمحفوظ في المصاحف؟ فإن قصدنا به الأول، فهو ولا شكَّ قديم، وإن قصدنا المعنى الثاني، فهو مخلوق، ولا مشاحة في الاصطلاح. ولا نجد أيَّ مسألة أخرى من العقيدة، أو من علم الكلام، وقع فيها الاختلاف بين المشارقة والمغاربة، فهم في خطِّ واحد، وموقف واحد من المجاز، والتأويل، والتنزيه، واعتبار حجية خبر الآحاد في العمل دون العلم... وغير ذلك مما هو منشأ الاختلاف في هذا الحقل الجوهري من التقسيم المذهبي لدى المسلمين. إنما الاختلاف في الفروع: قال الشيخ اطفيش: "والأصل يَقطع فيه عذرَ مخالِفه والفرع بخلافه، وهو ما طريقه غلبة الظنِّ والاجتهاد. والحق في الأصل في واحد ومع واحد، والفرع الحقُّ فيه مع واحد وفي واحد، ولا يضيق على الناس خلافه" ويضيف في هذا المعنى قوله:"حتى إذا سئلنا عن مذهبنا في القوم ومذهب المخالفين وجب علينا أن نقول: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفينا خطأ يحتمل الصواب؛ لأنَّك لو قطعت القولَ بأنَّ مذهبنا صواب فقط، ما صحّ قولنا: المجتهد يخطئ ويصيبُ، وإذا سئلنا عن ديانتنا وديانة المخالفين وجب أن نقول: الحقُّ ما نحن عليه، والباطل ما عليه مخالفونا، لأنَّ الحقَّ عند الله واحد". والديانة هنا تعني العقيدة. هذا التوسُّع في الفروع، والتسامح والتساهل فيها، ليس مما أُلف في التراث الإسلامي إلاَّ في بعض مظاهره الحضارية الراقية، حيث ظلَّ المسلمون لقرون عدَّة يخطِّئون من يخالفهم في المذهب، لأجل جزئية فرعية لا تدخل في مسائل التوحيد، ولم تثبت بكتاب أو سنَّة متواترة، ومن جملة ذلك: اختلافهم في المسح على الخفين، وفي الرفع والقبض في الصلاة... وغيرها. هذا بين مذهب ومذهب، ولقد ثبت الاختلاف داخل المذهب الواحد، بل عند العالِم الواحد، فيفتي بما يحقِّق، ثم يثبت له نقيض ذلك، ولا حرج عليه. وكذلك كان مجتهدو الإباضية داخل مذهبهم، يسرَحون بأريحية، ويسمحون لأنفسهم بالاجتهاد دون قيود معجزة، حتى أبدعوا حركية علمية فقهية، تُوائِمُ مقتضيات الزمان والمكان، وفي هذا الإطار ولد ما يعرف بفقه المشارقة، وفقه المغاربة، ونكاد اليوم لا نطالع كتابا متخصصا في الفقه الإباضي، إلاَّ ويصادفنا هذا المصطلح. ومما يلاحظ في هذا الشأن أنَّ الفقهاء الإباضية بداية من ابن خلفون، وابن بركة، وأبي ستة، ونهاية بالعلاَّمة السالمي في شرح الجامع، والمعارج وغيرها، وبالقطب اطفيش في الذهب الخالص وشرح النيل وغيرها من المؤلفات، كلُّ هؤلاء أسَّسوا لفقه مقارن بمفهوم واسع، جمع بين فقه الإباضية وفقه المذاهب الإسلامية الأخرى. ومن جهة أخرى لا نعرف كتبا من "الفقه المقارن" اعتبرت الفقه الإباضي، ووضعته في الحسبان، فبقيت المقارنة بالتالي داخل إطار مذهبيٍّ محدَّدٍ مسبقا، ولقد نستثني بعض المحاولات المحتشمة التي لا ترقى إلى المستوى الشمولي الواسع، الذي يستجيب لخصوبة وثراء التراث الفقهي الإسلامي، مشرقا ومغربا. شرح النيل نموذجا: وفي محاولة من الباحث للولوج إلى هذا الخضم المنهجي العميق، عمل على دراسة نسبة حضور الفقه المشرقي في مصادر الفقه المغربي، واختار "شرح النيل وشفاء العليل" للقطب اطفيش، نموذجا، لعدَّة أسباب، أهمما: *كونه المعتمد الأساس والأول في فقه المغاربة اليوم. *كونه أكبرَ موسوعة فقهية في المغرب، على الإطلاق. *اعتماده الكلي على من تقدمه من الفقهاء المغاربة، فهو بالتالي قد استوعب ما عندهم وزاد عليه. *الكثير من النصوص الفقهية المغربية المتقدمة متضمنة في شرح النيل، ومستشهد بها، فتحليلنا للشرح هو في ذاته تحليل لهذه النصوص. *هو كتاب في الفقه المقارن، وبالتالي فاهتمامه بالجدلية، وبالرأي ونقيضه، وبالحجَّة والحجَّة المخالفة... من أبجديات هذا العمل العلميِّ الشامخ. *كونه آخر موسوعة فقهية إباضية اشتملت على جميع أبواب الفقه، في التراث الإباضي الحديث والمعاصر، حسب علمنا، مع أنَّ الإمام السالمي قد ألَّف المعارج في نفس الفترة، ولكنَّه لم يتمَّه. *كون الثميني قد اختصر أهمَّ الكتب المغربية السابقة، في كتابه "النيل وشفاء العليل"، فجاء القطب اطفيش ليشرح هذا الاختصار مرَّتين، كانت المرَّة الأولى أكثر تطويلا وإطنابا، إلاَّ أنها لم تتمَّ، أمَّا الثانية فهي التي تقع بين أيدينا، وهي أقلُّ تطويلا وأكثر ضبطا، وأوسع ارتباطا وأكثر استفادة من الكتب المتقدمة، بما فيها الموسوعات الفقهية المشرقية. الثميني المؤسس، والقطب الشارح: وضعتُ صورة افتراضية تقرِّب لنا الفهم في علاقة القطب بالموسوعات الفقهية العمانية، وهي كالآتي: قرر القطب أن يضع موسوعة في الفقه، شاملةً لجميع أبوابه، وافيةً مستفيضة، فاهتدى إلى فكرة شرح كتاب النيل، الذي أبدع صاحبه الثميني في الاختصار والإلغاز، حتى صعب على المتمرس المنتهي، بله المتعلِّم المبتدي، فأوَّلُ ما واجهه هو كون صاحب النيل قد سبقه إلى مثل هذه الموسوعة، ولكن بالاطلاع عليها، وجد أنها مجرَّد اختصار لموسوعة عمانية كبيرة، وليس فيها زيادات، ولا حضور مغربي، وتفتقر إلى الدليل في كثير من الحالات، وإلى الفقه المقارن في أغلب أبوابها... ولذا فضَّل الاستقلال بما يؤلف، فوضع كتابه الجديد: شرح كتاب النيل وشفاء العليل. ولكن، والحال هذه، لا بدَّ أن تكون الموسوعات المشرقية المتوفرة في مكتبته، وفي مكتبة الحاج محمد بن عيسى ازبار، قد ألقت بثقلها عليه، وأغرته باختصارها، أو وضع الحواشي عليها... لكنه، كان واضح المنهج، وباختصار: يريد الاستقلال بمؤلف أصيل وجديد. إلاَّ أنَّ هذه الموسوعات لا ولن تغيب من مؤلفه هذا، بل إنها من المواد التي استوعبها، ووعى ما فيها، فاتخذها مصادر أساسية لكتابته، وهذا ما يفسِّر استشهاده بها في كثير من الأحوال. وهذه المداخلة حَرية بتبيين ذلك. المشارقة والمغاربة: لسائل أن يسأل: هل هذا التباين المشرقي المغربي، مما وضُحت معالمه في شرح النيل، أم هو مجرد ذكر عابر، ليس إلاَّ؟ في مقدِّمة النيل قال الثميني: «فَدُونَكَهُ كِتَابًا جِمَاعًا مَعْرُوضًا عَلَى الأُسْتَاذِ، مَجْمُوعًا لا مَقْطُوعًا فَضْلُهُ عَن الْعِبَادِ، وَلا مَمْنُوعًا» وفي شرح هذه العبارة يوضِّح، القطب أنَّ المقصود بكلمة "مجموعا" هو: «(مَجْمُوعًا) جَمَعْتُ مَسَائِلَهُ كُلَّ نَوْعٍ عَلَى حِدَة فِي مَحَلِّهِ» ثم قال: «لا كَكُتُبِ الْمَشَارِقَةِ الطِّوَالِ، جَزَاهُمْ اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا بِالتَّطْوِيلِ» من هنا نستنتج استحضار القطب في ذهنه لكتب المشارقة، ولطريقة تقسيمهم، ولأبواب الكتب عندهم، حتى إنه وظَّف هذه المعلومة في شرحه لما ذكره الثميني، وقد يكون الثميني لم يعنِ هذا الاستثناء بالذات. وهذا الذكر والاستحضار يبين لنا مدى التباين الذي يتصوَّره القطب بين كتب المشارقة وكتب المغاربة، في المنهج على الأقلِّ، وهي معلومة أولى تفيدنا في الإجابة على السؤال المطروح. أمَّا من حيث المحتوى، فالمطَّلع على شرح النيل، باستعمال وسيلتين اثنتين يسَّرهما لنا الله تعالى في هذا العصر، ولم تكونا ممكنتين من قبل: * أولاها- فهارس شرح النيل، من إنتاجنا في جمعية التراث، والذي طبع في سلطنة عمان. * ثانيهما- برنامج الكمبيوتر المعنون ب"جامع الفقه الإسلامي" الذي أدرج ضمن مصادره شرح النيل كاملا، مما يسهِّل البحث فيه بالكلمة، أو بجزء منها، أو بالعبارة، وهذه من النعم التي حبانا الله تعالى بها، وكلُّ أملنا أن نطالع يوما ما جميع الموسوعات الفقهية الإباضية، في برنامج علمي دقيق، يسهِّل لنا الكثير من الخطوات في الإجابة على السؤال الجوهري لهذه المحاضرة وغيرها. قلت بالاطلاع على هاتين الوسيلتين، نلاحظ ما يلي: * أنَّ مصطلح "المشارقة" قد ورد معرفا في شرح النيل 64 مرة، في أغلب أبواب الكتاب، ويعني بالمشارقة في الغالب: فقهاء الإباضية من المشرق الإسلامي، عبر العصور، باستثناء أعلام المذهب أصحاب مرحلة النشأة، أمثال: جابر بن زيد، وأبي عبيدة، والربيع بن حبيب، وابن محبوب. فإنَّ هؤلاء يعتبرون وكأنهم ملك مشترك بين المشرق والمغرب. إلاَّ أنَّ القطب نقض هذا التعريف مرَّة واحدة في شرح النيل، في قوله: «(عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ) أَهْلِ نَفُوسَةَ وَأَهْلِ تيهرت وَأَهْلِ سِجِلْمَاسَةَ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْ الْمَشَارِقَةِ» (11/356) . * والصيغ المستعملة كلها تجعلنا في يقين أنَّ ثمة وضوح كبير في ذهن المؤلف بالتباين المشرقي المغربي، وهو حريص على إظهاره، وشرح حيثياته، إلاَّ أنه أحيانا يذهب إلى رأي المغاربة، وأحيانا أخرى يرى رأي المشارقة، وقد ينفرد بمذهبه. من الأمثلة على ذلك: * في ذكر نواقض الوضوء، يرى المغاربة أنَّ قلع الشعر من أصله ينقُض الوضوء، وكذا بعض المشارقة، قال: «وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَارِقَةِ: نَاقِضَةٌ وَإِنْ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ» (ج1/ص 150). ولم يعيِّنهم. * في باب التيمم، قال: «وَيَتَيَمَّمُ لِلْوُضُوءِ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُضُوءِ، أَوْ لَمْ يَجِد الْمَاءَ , وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهَا تَيَمَّمَ لِلْوُضُوءِ دُونَ النَّجَسِ، كَمَا لا يَتَيَمَّمُ لِلثَّوْبِ الْمَنْجُوسِ, وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَشَارِقَةِ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِلثَّوْبِ بِنَشْرِهِ عَلَى الأَرْضِ, وَظَاهِرُ إيجَابِهِمْ التَّيَمُّمَ لِلاسْتِنْجَاءِ وُجُوبُهُ لإِزَالَةِ النَّجَسِ حَيْثُ تَعَذَّرَتْ ثُمَّ لِلْوُضُوءِ» (1/367). * وهل تجوز الصلاة فوق المسجد، أم هي مكروهة، يجيب القطب: «(وَكُرِهَتْ فَوْقَ مَسْجِدٍ) , وَقِيلَ : فَسدَتْ إلاَّ عَلَى الضَّرُورَةِ, وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَشَارِقَةِ أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاةُ فَوْقَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ كَرَاهَةً, وَمُرَادُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - جَوَازَهَا عَلَى الْكَرَاهَةِ حَمْلاً لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَجَمْعًا بَيْنَ الْكَلامَيْنِ لأَنَّهُ الأَصْلُ مَا أَمْكَنَ, وَالْجَوَازُ لاَ يُنَافِي الْكَرَاهَةَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي سِتَّةَ» فنلاحظ هنا أنه استطاع أن يجمع بين القولين، وصرَّح بأنَّ الجمع هو الأصل. (2/74). * في حكم صلاة الجماعة، قال: «(صَلاةُ الْجَمَاعَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ) ... (عَلَى الصَّحِيحِ), مُقَابِلُهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا سَنَّةُ كِفَايَةٍ، وَتِلْكَ الأقْوَالُ بَعْضُهَا مِنْ كُتُبِ الْمَشَارِقَةِ وَبَعْضُهَا مِنْ كُتُبِ غَيْرِنَا، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَبُو سِتَّةَ رضي الله عنه» يلاحظ قوله: «وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَبُو سِتَّةَ رضي الله عنه»، مما يبيِّن أنَّه تتبع ما قاله في الحاشية، وذكر ما يفهم منه أنَّه لم يطلع عليها، فعلَّق القطب بهذا التعليق المفيد. * في اتخاذ الوطن للمسافر، قال: «وَفِي " الأثَرِ " : لِمُسَافِرٍ وَطَنٌ وَاحِدٌ يَتَّخِذُهُ، وَقِيلَ: وَطَنَانِ, وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَارِقَةِ» (2/379). * في الجهل ببعض أحكام الصلاة والصوم، ولزوم الكفر والكفارة على ذلك، قال: «وَهَكَذَا الْمَشَارِقَةُ يَعْذِرُونَ الْجَاهِلَ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْفِيرِ، فِي مَوَاضِعَ مِن الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْفُرُوعِ فَافْهَمْ» (2/396 ) * في عدد التكبيرات في صلاة العيدين، يبين القطب الفرق بين رأي المشارقة ورأي المغاربة، ويعبِّر عن ذلك بمصطلح جديد هو "الطريق"، فيقول: «قَالَ فِي التَّاجِ: وَهُوَ الأصَحُّ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا الأوَّلُ. وَمَا فِي التَّاجِ طَرِيقُ الْمَشَارِقَةِ» (2 /536) * في باب ما لا يفعله المحرم، قال: « (كَمِسْكٍ) , ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ جَائِزُ الاسْتِعْمَالِ إنَّمَا يُمْنَعُ لِلإِحْرَامِ فَقَطْ, وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي حَفْصٍ وَأَبِي زِيَادٍ وَأَبِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَشَارِقَةِ وَالْمَغَارِبَةِ, وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَلِيٍّ وَسَلْمَانَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : "أَطْيَبُ الطِّيبِ الْمِسْكُ"» (4/84). *في حكم إخفاء المذهب عن المعلِّم طلبا للعلم، قال القطب بجوازه، ثم قال: «وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَارِقَةِ إنَّهُ لا يَحِلُّ أَخْذُ الْعِلْمِ عَنِ الْمُخَالِفِ، إلاَّ إنْ عَلِمَ أَنَّكَ مُخَالِفُهُ» (5 /177). * في شهادة الصفة، التي هي شهادة على شهادة بصفته من غير معرفة عينه، يورد القطب قول المشارقة، فيقول: «وَقِيلَ: لا تَجُوزُ شَهَادَةُ الصِّفَةِ وَلا يَحْكُمُ بِهَا, وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَارِقَةِ, وَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا جَوَازُهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ» (13/188). * قال في وجوب دفع الإنسان عن نفسه: «فِي أَثَرِ أَصْحَابِنَا الْمَشَارِقَةِ وَالْمَغَارِبَةِ خِلافٌ فِيمَنْ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى التَّوْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ مُصِرًّا فَقَدْ قِيلَ: تُعَدُّ حَسَنَاتُهُ فَإِنْ غَلَبَتْ سَيِّئَاتِهِ فَازَ, وَكَيْفَ إنْ قَصَدَ التَّوْبَةَ, وَلا يَبْعُدُ أَنْ يَعْظُمَ فَضْلُ الْجِهَادِ حَتَّى يُغْفَرَ بِهِ تَبِعَاتُ الْخَلْقِ مَعَ أَنَّ الْمُذْنِبَ لَمْ يَعْتَقِدِ الإصْرَارَ فَيُرْضِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِنْدِهِ صَاحِبَ الْحَقِّ» (14/493). * فيما لا يسع الناس جهله، قال: «وَاَلَّذِي لا يَسَعُ جَهْلُهُ عِنْدَ أَكْثَر أَصْحَابِنَا الْمَشَارِقَةِ وَعَمْرُوسِ بْنِ فَتْحٍ وَأَبِي خَزَرٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رُسْتُمَ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي يَدْعُو إلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (17/11). إنَّ الأمثلة التي أوردناها صريحة في تميز المغاربة عن المشارقة في فقههم، ولا يعني هذا أنهم مختلفون في الكثير من الأمور، ذلك أنَّ جلَّ المسائل الفقهية بينهم لها حكم واحد، فالمصدر واحد، ومنهج استنباط الأحكام واحد، والمرجع في الحديث النبوي الشريف واحد. ابن بركة، وكتابه الجامع: لا يخفى أنَّ الإمام أبا محمد عبد الله ابن بركة(13) يُعرف ب"شيخ المغاربة"، ولا شكَّ أنَّه صاحب الحضور الأكبر في الكثير من الفقه المغربي عبر القرون، ولعلَّ علماء المغرب من أمثال القطب يجدون نوعا من الاحترام الخاص له، فهو صاحب الفضل عليهم، وهو المعلِّم الأوَّل، بتعبير الفلاسفة، وكلُّ تلميذ هو بالضرورة محب لمعلِّمه فوق غيره. إضافة إلى القيمة العلمية لكتابه الجامع، الذي لم يسبِق إلى مثله أحدٌ من العلماء، سواء في تمكنه من أصول الفقه، ومن القواعد الأصولية والفقهية، أو في تمكنه من ناصية الفقه المقارِن، والنقد العلمي المنهجي، وهذا أقرب ما يكون إلى روح قطب الأيمة، ومن قبله الثميني. جميع هذا يفسر كون ابن بركة حاضرا، وبقوَّة في النيل، وفي الشرح، فلقد أحصينا ذكره بالاسم 60 مرة، ولم يذكر اسم الكتاب بلفظ الجامع في كامل الشرح، ذلك أنَّ الجامع في شرح النيل إذا ذكر عني به كتاب أبي العباس أحمد بن محمد بن بكر المعروف ب"أبي مسألة". والملاحظ أنَّ أغلب اعتماد القطب على ابن بركة لم يكن في فقه العبادات، وإنما في فقه المعاملات، ففي الجزء الأول – مثلا – وهو في الطهارات، ورد اسم ابن بركة في متن النيل أربع مرات، ولم يرد في الشرح ولو مرَّة واحدة، أما في أجزاء البيوع والرهن والإجارات من الثامن إلى الثالث عشر فتُمثل نسبة اعتماد ابن بركة أكثر من 80 في المائة، وفي الجزء الثامن وحده ورد ذكره 11 مرة. وقد ظنَّ القطب أنَّ الثميني إذا ذكر الكتاب يعني به ديوان العزابة أو جامع ابن بركة، فتتبع ذلك في المصادر، وخرج باستنتاج رائع، يفيد كلَّ قارئ للتراث الفقهي الإباضي، ويرشد كل باحث في مصطلحاته، قال: «وَهَذَا الْقَوْلُ نَسَبَهُ الشَّيْخُ لِلْكِتَابِ, وَنُسِبَ فِي "الدِّيوَانِ" لِلدَّفْتَرِ أَيْضًا, وَكَأَنَّهُمَا وَاحِدٌ, وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمَا كِتَابُ الشَّيْخِ أَبِي عِمْرَانَ مُوسَى ابْنِ زَكَرِيَّاءَ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ حَقِيقَةُ الْكِتَابِ لا كِتَابٌ مَخْصُوصٌ, وَبِالدَّفْتَرِ حَقِيقَةُ مَا قُيِّدَتْ فِيهِ مَسَائِلُ وَلَمْ يَكُنْ تَأْلِيفًا, لا دَفْتَرٌ مَخْصُوصٌ, فَإِذَا قِيلَ: قَالَ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي الدَّفْتَرِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وُجِدَتْ فِي الأثَرِ أَوْ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ, وَلَيْسَ الْمُرَادُ كِتَابَ أَبِي عِمْرَانَ، وَلا كِتَابَ ابْنِ بَرَكَةَ لأَنَّهُ كَثِيرًا مَا لا تُوجَدُ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تُذْكَرُ» (3/193-194)، وللعلم أنَّ المشارقة المتأخرين إذا ذكروا مصطلح "الكتاب" فينصرف إلى "جامع ابن بركة" دون غيره: ومن أمثلة ما نقل عن ابن بركة في شرح النيل: * في حكم كفارة اليمين، قال: «قوله تعالى - :يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ, فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ يَمِينٌ تَجِبُ عَلَيْهِ التَّحِلَّةُ، وَهُوَ الْفَكُّ بِالْكَفَّارَةِ الْمُرْسَلَةِ الْمَعْهُودَةِ لِلْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ, كَمَا أَدْخَلَ ابْنُ بَرَكَةَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ كُلَّ يَمِينٍ، فَلَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِ الْمُغَلَّظَةِ فِي يَمِينٍ إلاَّ فِي الظِّهَارِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِ» (4/287). * تحت باب "في أمر المساجد"، نقل القطب بالنص من ابن بركة قوله: «لا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ شَيْءٌ مِن الآيِ أَوْ مِن الْمَوَاعِظِ، وَلا يُجْعَلُ فِيهِ تَصَاوِيرُ» (5/248). * وكثيرا ما نقل القطب الحدود والتعاريف من ابن بركة، ومن ذلك: «وَعَرَّفَ ابْنُ بَرَكَةَ (الْعُهْدَةَ) بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ الْمَبِيعِ بِضَمَانِ الْبَائِعِ» (8/454) * وقد يختلف القطب مع ابن بركة، فلا يتردد في نقده، إلاَّ أنَّ هذا قليل جدا، مقارنة بالاتفاق معه، وتبني آرائه، ومن أمثلة الاختلاف، ما روي فيمن أحدث في صلاته بما لا يبني معه مما يفسدها، قال القطب: «"تَنْبِيهٌ" إنْ بَانَ شِرْكُ الإِمَامِ أَعَادُوا وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ, وَقِيلَ: لا إنْ خَرَجَ, فَلا اتِّفَاقَ وَلَو ادَّعَاهُ ابْنُ بَرَكَةَ, إلاَّ إنْ أَرَادَ اتِّفَاقَ الأصْحَابِ» (2/255)، ويعني بالأصحاب الإباضية، وكأنَّ القطب يجعل لفظ الاتفاق عامًّا لجميع أيمة المسلمين، بينما يخصِّصه ابن بركة في الإباضية. الضياء للعوتبي: من المصادر الأساسية لشرح النيل كتاب "الضياء" للشيخ أبي المنذر سلمة بن مسلم العوتبي (ق5/6ه)(15)، فقد ورد ذكره 21 مرة في كامل الكتاب، متنا وشرحا. ولم نجد أي ذكر للمؤلف بنسبته: العوتبي. وذكره بكنيته "أبو المنذر" مرة واحدة. ومن جملة ما نقرأه: * في بيان حكم فقهيٍّ من أحكام التيمم، قال: «وقال في الضياء، من كتب أصحابنا» (1/381) وهو أول ذكر للكتاب، كما يصطلح عليه في كتب المناهج، ولذلك عرَّفه بقوله: هو من كتب أصحابنا. * ومن باب أركان الدين، نقرأ تعريفا للقدر، جاء فيه: «"فِي الضِّيَاءِ": الْقَدَرُ الْخَلْقُ وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ عَلَى الْمَقْدُورِ لا عَلَى الْقَدَرِ». * في باب ما يباح وما لا يباح في الانتفاع، نقل ما يلي: «وَكَانَ أَبُو الْمُنْذِرِ يَجْلِسُ عَلَى دَكَاكِينِ الدُّورِ وَالأسِرَّةِ الَّتِي فِي الطَّرِيقِ, وَأَبْوَابِ الدُّورِ لِسُكُونِ النَّفْسِ, وَيَقُولُ بِجَوَازِ ذَلِكَ». (12/239). بيان الشرع: إنَّ الدارس لدليل مخطوطات الإباضية يلفت نظره وجودُ موسوعتين كبيرتين هما: بيان الشرع للشيخ محمد بن إبراهيم الكندي(16)، وقاموس الشريعة للشيخ جميل بن خميس السعدي، في مكتبتين مختلفين من بني يسجن بميزاب، وهما: مكتبة القطب اطفيش، ومكتبة الشيخ محمد بن عيسى ازبار(17)، وهي حاليا مكتبة عشيرة آل خالد(18)، والغريب أنَّ الموسوعتين كاملتين بأجزائهما في كلا المكتبتين، فقاموس الشريعة اختصت به مكتبة القطب، وبيان الشرع كان من حظ مكتبة ازبار، إلاَّ أنَّ الملفت هو كون جزء تمت مقايضته بينهما، بحيث يوجد جزء من القاموس في مكتبة ازبار، وجزء من البيان في مكتبة القطب، مما يدل على أنَّ القطب رحمه الله لم يكن يملك بيان الشرع، ويفسر هذه القلة في الذكر. فلم يذكُر بيانَ الشرع على سعته إلاَّ ثماني مرات، بعضها كان نقلا عن "مختصر بيان الشرع للشيخ خميس" أي عن "منهاج الطالبين وبلاغ الراغبين"، ومما نقرأ من هذه الاستشهادات: * في بيان مقدار زكاة الفطر: «وَفِي بَيَانِ الشَّرْعِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ تَمْرًا مَكْنُوزًا فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَن الصَّاعِ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا , وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ , وَعِنْدِي أَنَّ التَّمْرَ الثَّقِيلَ كَالْبَلْعَقِ وَنَحْوِهِ , وَزْنُ الصَّاعِ مِنْهُ ثَلاثَةُ أَمْنَانٍ» (3/294). * وفي أحكام السلام والاستئذان، يقول عن سلام المرأة: «وَتُسَلِّمُ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالرَّجُلِ كَمَا فِي بَيَانِ الشَّرْعِ, وَلا بَأْسَ بِسَمَاعِ الرَّجُلِ صَوْتَهَا فِي السَّلامِ, كَمَا لَهَا أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي فَرَائِضِهَا وَمُبَاحَاتِهَا الرِّجَالَ عِنْدَ الْحَاجَةِ» (5/401). المصنَّف والكندي: على خلاف ما كان مع جامع ابن بركة، لم يرد ذكر كتاب المصنَّف لأبي بكر أحمد الكندي(19) في شرح النيل إلاَّ ثلاث مرَّات، وذكر الكندي بنسبه مرَّة واحدة، والواضح أنه لا يعني بالمصنَّف الموسوعة الفقهية العمانية المشهورة، ولا بالكنديِّ الشيخ أبا بكر أحمد بن عبد الله الكندي (ت.557)، فنستنتج من ذلك أنَّ القطب لم يعتمد هذا الكتاب في تحريره لشرح النيل، ولا نعرف السبب في ذلك. ففي باب الحب والبغض والتأديب، نقرأ تعريفا للصديق نقله بلفظه، فقال: «قَالَ الْكِنْدِيُّ: الصَّدِيقُ إنْسَانٌ هُوَ أَنْتَ إلاَّ أَنَّهُ غَيْرُكَ» (16/496). وفي باب نكاح الطفل والمجنون، نقرأ: «وَقِيلَ : لا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى ذَاتِ أَرْبَعِ سِنِينَ فَصَاعِدًا, وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّكَّارِيُّ: لا تَلْزَمُ نَفَقَةُ طِفْلَةٍ وَكِسْوَتُهَا إنْ كَانَ لا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا، وَالصَّحِيحُ: مَا ذُكِرَ فِي الْمُصَنَّفِ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ قَوْلِهِ: بَابُ قَدْ عَرَفْت مِمَّا مَرَّ نَفَقَةَ النِّسَاءِ إلَخْ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ» (16/380) . وقوله "كما سيأتي" دليل على أنَّ المصنَّف في هذا السياق هو متن النيل للثميني، لا كتاب المصنَّف. قاموس الشريعة: رغم كون "قاموس الشريعة"(20) من الموسوعات العمانية التي لا تندرج في الحقبة المحدَّدة لهذا الملتقى، فهو متأخِّر جدًّا، إلاَّ أنَّ ظاهرة عدم اعتماد القطب عليه، وهو يملك نسخة منه، تسترعي الانتباه. ففي كامل شرح النيل ورد ذكرُ القاموس مرَّة واحدة فقط، ولقد تتبعت لفظ القاموس معرَّفا في كامل الكتاب، فوجدت أنه يقصد به القاموس اللغوي، لا قاموس الشريعة. أمَّا قاموس الشريعة فجاءت الإشارة إليه في الجزء الثالث، ضمن أحكام الصوم. فلو أنَّ القطب لم يعتمده كلية، لقلنا: إنَّه ألَّف شرح النيل قبل الحصول على نسخة من القاموس، ولكن، ما دام قد أورده في الجزء الثالث، فهذا يجعلنا في لغز ينتظر فكَّه، ولعلَّ المزيد من البحث كفيل باستجلاء الجواب. *جاء في أحكام قضاء الصوم، نقلا عن الشيخ جميل السعدي فقال: «وَفِي قَامُوسِ الشَّرِيعَةِ: رُخِّصَ أَنْ لا يَنْهَدِمَ قَضَاؤُهُ خِلافًا لِلْحَسَنِ» (3/380) حاجة المذهب الإباضي اليوم إلى الاجتهاد الجماعي: هذه نبذة عن العلاقة المغربية المشرقية في الفقه الإسلامي عبر التاريخ، غير أنَّها لم تكن في يوم من الأيام علاقةً مباشرة، لانعدام الظروف، ولبعد المسافة، ولكثرة الفتن في بعض الأحقاب التاريخية، ولفعل المستعمر في العصور المتأخِّرة... أمَّا اليوم فإنَّ الظروف مواتية للتفكير جديا في إحياء هذه العلاقة، بصياغة مجمع فقهي، يتعامل مع النوازل بسرعة وذكاء وفطنة، ذلك أنَّ السمة الجوهرية لهذا العصر هي "عدم الاستقرار"، فالواجب على الفقه أن يقود الركب، لا أن يستجيب للواقع باستحياء، وبإيقاع بطيء... فالشريعة توجب على العلماء أن يضبطوا الفتوى حسب تغير الزمان والمكان، والعرفِ والحال، لا أن يجيبوا على أسئلة مستجدَّة بأسلوب قديم غير مفهوم، وبديهي أنَّ ذلك يتم وفق ضوابط علمية ومنهجية رصينة، لا بليِّ أعناق النصوص، والتلفيق، والتبرير... والمقرَّر شرعا وعقلا أنَّ الفقه هو القاعدة والواقع هو التابع، وليس العكس. «وإذا كان الاجتهاد – بصفة عامَّة – في هذا العصر ضرورةً ملحَّة، فإنَّ الاجتهاد الجماعيَّ أشدُّ حاجة، وأكثر إلحاحاً»(21) لأسباب أهمُّها: *-تشعُّب مجالات الفتوى بما يستعصي على العالِم الواحد استيعابه. *-وظهور التخصُّصات الدقيقة، وكثرة الخلافات والاختلافات في بعض المستجدَّات. *-غياب التصور الكامل للموضوعات الشائكة من ذهن المفتي، ورغم وجود مجامع فقهية إسلامية، فإنَّ الإباضية – بالخصوص – في حاجة إلى مجمع يوحِّد فتواهم، ويمنحها المرجعية، فيكونوا رفدا وسندا للمجامع الإسلامية العالمية، وعونا لمشايخنا وعلمائنا في البحث والتدقيق. وهذا لعمري، من أوكد النتائج التي ينتظر من مثل هذا المتلقى المبارك أن يحققها، نظرا لمرونة مذهبنا، ولقدرته على مواكبة العصر، وقيادة الأمَّة إلى الخير والصلاح. النتائج: هذه المداخلة هي مجرَّد مدخل لدراسات أعمق في جدلية التأثير والتأثر بين المشرق والمغرب، ولقد خلصت منها إلى بعض النتائج الهامة، أبرزها: لا اختلاف بين علماء الإباضية في مسائل الديانة، مما لا يسع الناس جهله، وبالتالي فإنَّ المسألة الوحيدة التي تباين فيها المشارقة والمغاربة هي مسألة خلق القرآن، وهي من فروع العقيدة، والخلاف فيها لفظيٌّ لا محالة. لم يقيد الإباضية مفهوم الاجتهاد، ولم يجعلوه حكرا على جنس دون آخر، ولا على فئة دون أخرى، بل كانوا متسامحين جدًّا في الفروع، ولهذا ولد ما يعرف بفقه المشارقة وفقه المغاربة. إنَّ المتتبع لمصادر الفقه المغربي، وللأمثلة التي أوردناها، يجد تميزا صريحا بين المغاربة والمشارقة في الفقه، مما يجعل من كلّ واحد منهما مدرسة مستقلة، ذات خصائص ومواصفات بارزة. كان الفقه المشرقي حاضرا في مصادر الفقه المغربي، وبالذات الموسوعاتُ الفقهية الكبرى، للقرنين الخامس والسادس الهجريين، ولقد اعتمد القطب على العديد منها. يأتي كتاب الجامع للإمام ابن بركة، على رأس قائمة المصادر أهمية وحضورا في فقه المغاربة، وبخاصة في مجال فقه المعاملات. يسترعي الانتباه عدم اعتماد القطب على أكبر الموسوعات الفقهية المشرقية: بيان الشرع، وقاموس الشريعة، مما يستلزم بحثا علميا معمَّقا ودقيقا، محاولة لإبجاد الجواب على هذا الإشكال. هذه المداخلة في المنهج، هي مدخل لدراسة جدلية التأثير والتأثر بين المشرق والمغرب الإباضيين، ونرى ضرورة الاهتمام بتحليلها من مختلف المداخل المعرفية، في بحوث أكثر توسعا وتعمقا. يجب التفكير جديا في إنشاء "المجمع الفقهيٍّ الإباضي" ليكون سندًا للمجامع الفقهية العالمية،