ذات خريف أبلج.. نصفهُ غائمٌ كرجلٍ أصمّ، ونصفهُ صاحٍ كسكّير أعمى يترنّح بين لغتين.. أكاد أتذكر، كما اليوم تماما، تلك الجهات الستّ النائمة في بطن يدك كأنها اللؤلؤ الذائب في حبر الفيوضات.. لم يكن ثمّة طرقاتٌ تؤدي إلى السوق ولا غماماتُ بياض تذهبن إلى الحمّام ولا عصافير تغرد في أقفاص الحلم.. * °°° °°° °°° أنا من مواليد عينيك.. فجأةً وجدتُ ثلاثتهم ذات خريفٍ أبلج حينما توهّمتُ أنّني السرب و أن العصافيرَ جوقةُ الجرح الناتئ في بريّة السّماء.. الآنَ فقطْ أعترف أنني كنت أعمى وأنّني لن أدرك البهاء مهما تطاولتُ على الحروف.. لا أحدَ يتطاول على الألف، ولا قمر يعوّض نقطة الباء.. * °°° °°° °°° * منذ ذلك اليوم وأنا وحيدٌ في هذه الأرض.. أتفرّج على المارّة، وأصفّق بيدٍ واحدة، ليس بعيدا عن قمّة الونشريس، على شيوخِ الحلقات في السوق العامرة بالمجانين و مجاذيب القرى المنسيّة.. أرقصُ أحيانا كالدراويش وأقلدهم بطريقة رديئة في غرفة الله المغلقة، كأنني المسكون بالعودة إلى بطن عينيك، حتى أسقط مغشيا عليّ من شدّة الحزن.. لعلّ قلبي يعود إلى عهده القديم.. لكنه لن يعود.. * °°° °°° °°° أعرف جيدا أنه لن يعود.. تماما كما أخي.. أخي كذلك كان حزينا جدا.. تماما كما الوقت الغارق في عينيك.. كنتِ أنتِ الأرض المكتومة في شبق الحروف.. وكنت أنا الولدَ الشّارد.. لم أنتبه لتلك الخصال المعقودة في مناديلك.. ولم أعتدّ بحزني ذلك النابع اليوم من أنهار حبّك.. كأنّني الطفل الهارب إليك في اشتهاء الغسق الدّافئ.. كأنني العائد إليك جسدا طويلا يحمل يدين موشّحتين بتركة الأرض الفارغة.. * °°° °°° °°° * آهٍ لأيامي تلك.. في الحيّ المكتظ حدّ التخمة.. حيث تولد الأشياء مختومةً بشوقِ اليرقات إلى السماء، وتطفح من قرص الشمس حينما تتدلى كعنقود فضة ذاهبة إلى النوم في حضن الغدير.. آه من تلك الوصيّة المعتقة برائحة الأرض حيث كان أبي العنيد يقضي قيلولة الحياة متّكئا على عصا الوقت قبالةَ جهات الأرض الصفراء.. * °°° °°° °°° * أنا من مواليد عينيك.. طفلٌ أرعن كانكسار المواعيد وحزينٌ كعنقود عنب.. لا سُكّرَ في خشب الباب القديم، ولا صحْوَ في شوك الحقل النّائم.. كلّ شيء حزين أيّتها الأرض المقلوبة وأنا وحيدٌ كما كنت قبل خمسين عاما.. مسرعا للمجيء من الأرض وتائقا إلى الخروج إلى عينيك.. الشاعر عبد القادر رابحي/ الجزائر