ليس ما يدعو إلى الشك في أن الشعر يكره الشعر في صورة من صوره أو في وجه من وجوهه. و قد يبدو هذا الأمر غريبا لولا أن تجربة الشعر طيلة امتدادها عبر الزمن نمت و ترعرعت على تجربة الوقوف ضد الشعر، أي تجربة نقضه و تجاوزه بتقويض ما يتحول فيه إلى قناعات و كراهية البقاء المستديم داخلها. ذلك أن الشعر يأنف من أن يضلّ حبيسَهُ، أي حبيس صورته المترسبة في ما تعود الشاعر على كتابته و القارئ على قراءته حتى لكأن الشعر هو الأسر في صورة و الحرية في الأخرى، أو أنه الأسر و الحرية، أو أنه الأسرُ الحريةُ ممتزجين في تناقضهما متناقضين في تمازجهما تماما كما (مقبل ٍمدبرٍ معاً..). ربما اعتقد الشعراء جازمين أن الشعر لا يتحقق إلا بما قد يدلّ عليه ممّا لا يمكن تصوّره من حالات كراهية و حقد و حسد سرعان ما تتحول إلى هجاء و رثاء و فخر. غير أن الشعر ليس الشعراء بالضرورة، و لا يمكن للشعر أن يكون شعراءه دائما و إلى الأبد، فهو أعلم بشعرائه تماما كما الخيل أعلم بفرسانها. و قد تكون سقطةُ فارس عظيم أكثر مواكبة لحركة الشعر عبر التاريخ من ركوب جيش كامل من الشعراء. ذلك أن ما لاقاه الشعر من الشعراء أنفسهم و هم يحاولون ترويضه لا يعادله إلا ما لاقاه الشعراء من الشعر و هو ينفلت من بين أيديهم و قلوبهم و ينبلج كالصبح الجديد في مدارات أخرى غير التي يدعون أنهم أول من استيقظ على أشعة نورها. فقد يترجل الشعراء و لكن الشعر لا يترجّل. وحده الشعر يستطيع أن يهزم الشعراء. بين الشعر/ الأسر و الشعر/ الحرية ثمةّ تاريخٌ طويلٌ من الكتابة التي يتضرع بها الشعراء لكل ما يعتقدون أنه كفيل بأن يأسرهم في دهشة الأفق حتى يتيقنون أنه النهاية ثم سرعان ما يكتشفون أن هذا الأفق لم يكن غير خلفية جميلة تتقادم مع الوقت لأفقٍ آخر لم يكونوا أكثر من شهود مبهورين أطالوا الثّواء أمام مرآته فنازعتهم شواردُهم فجأة عنه، و أخبرتهم بأن ثمة أفقا آخر غير الأفق و شعرا آخر غير الشعر فهرع بعضُ من آمن بأن الشعر أفّاك مخادع مراوغ و بقي من بقي ممن اعتقد أن الشعر أفّاكٌ مخادع مراوغ، و كلٌّ بما يعتقد أنه الرسوخ في الرأي، في حين أن الشعر لا يعبأ بهما معا كأن الشعر لا رأي له أصلا. و بين من هجر الشعر إلى الشعر معتقدا أن الشعر لا يمكنه الثواء النهائي في الشعر و من بقي في الشعر معتقدا أنه الشعر كلّه مسافةٌ لا تُقدّر بما حاول النقاد تدبيجه عن الشعر وشايةً أو إخباراً، و إنما تعود إلى ما حاول كل الشعراء أن يتوارثوه و يورّثوه ابتداءً من (قفا نبك) الإغريق و انتهاءً ب(جميلات) محمود درويش مرورا بقمر(باشو) و هو ينزع عن الطبيعة ميزتها الأبدية في الاستحواذ على الفكرة، و ب(رياح) سان جون بيرس المنذورة ل(لمرارات) التي تلاحق الشاعر حتى في كهوف الديبلوماسية المغلقة، و ب( حديث الشجرة) الذي أسرّ به الشعر إلى أوكتافيو باز ذات ليلة لاتينيّة. ليس ثمة ما يمنع الشعر من أن يكون شعرا غير الشعر نفسه. و ليس ثمة ما يدفع الشعر لكي يكون شعرا غير الشعر نفسه. و لعله لذلك، كان الشعر هو ناقدُه الأول و الأخير، و هو في الوقت نفسه موتُه و ميلادُه، دوائره و خطوطه، خليله وراويه و شجرةُ أنسابه المتفرعة تحت الأرض و فوق الغيوم و مع رحيل (السي ميرغ) الأول للّغة إلى المرآة الكبرى. و هو، في هذه الحالة، لا يعبأ بالأشكال المتجددة و لا بالحداثات المتعاقبة إلا بالقدر الذي يحاول به و من خلاله أن يتولّد متجدّدا فيها نافيا ما يمكن أن يعبر خيال الشعراء من شكّ في إمكانية انبعاثه، و ما يرسخ في نصوصهم من يقين باستحالة ميلاده . و ربما لهذا السبب كذلك، كان الشعر يكره الشعر فيلوي عنق قصائده و يخنقها خنقا أمام قائلها المنبهر في الحالتين بما يمكن للشعر أن يقدمه من قدرة على بعث الحياة في الكلمات لتصير قصائد بضفائر ممتدة على طول خطوط الأكفّ الكاتمة لأقدار الشعراء و الأيدي الملوّحة بما تحمله حنّاء الكون من ألوان مختلفة و من بهاءات متعددة. وحدَه الشعر يستطيعُ أن يرى في غروبَ الشمس شروقَ قصيدة، و وحده الشعر يستطيعُ أن يحوّل رداء الليل الساقط إلى مصفاةِ ضياءٍ عابر للأجساد. و لعله لكل ذلك، كان الشعر متجاوِزًا للشعر لا بوصفه شكلا أو موضوعا فقط، و لكن بوصفه زمنًا لا يمكنه أن يتوقف عند لحظة من لحظات الكتابة، و عند شكل من أشكالها، و عند فكرة من أفكارها بصفة نهائية. في كراهية الشعر للشعر محبةٌ تخبر عن محبّة الشعر لنفسه. و في محبة الشعر لنفسه كراهيةٌ تخبر عن نرجسية الشعر و هو يوقف الشعراء أمام بركة الوجود و يُغرِقُهُم الواحدَ تلو الآخر في أعماقها اللغوية فيولد نرجس القصائد في حقول الحياة من جديد، ليس في الشعر ما يدعو إلى التوقف. وحده الشعر الذي يدعو إلى التأمل مشيا أو ركضا أو طيرانا. فالشعر يكره الوقوف في المحطات التي لا تملك أجنحة، و في المطارات التي لا تطير، و في حافلات القواميس اللغوية المعطلة في الطريق السيّار.