بيت صغير يسكنه عاشقان، لم يكن بين الأعشاب، بل في وهران . في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة البحرية، في منطقة "الدار الكبيرة" أو "غراند تير". منطقة بسيطة مفتوحة على السماء وجميلة مثل قارة عذراء آنذاك ، خصصت وقتها كسكنات أساتذة وموظفي جامعة السانيا. أمام شرفاتها الخلفية، تربض حديقة واسعة خضراء، فيها الشجر والخضرة والورود، وبها حارس نشيط لا يبرحها. كل صباح يجول بها وهو يرتدي مئزره اللامع، يجوب حوافيها وممراتها وهو يتأبط مقصه الكبير للتقليم، ويجر أنبوب الماء. كان المشهد يشبه أغنية. أو مقطعا مذهلا من سمفونية "تراڤياتا دي فيردي". يقال إن الحديقة تلك دشنتها السيدة الأديبة "زهور ونيسي"، أول وزيرة في حكومة الجزائر المستقلة. أغلب الظن بمناسبة عيد الشجرة خلال إحدى زياراتها الرسمية لولاية وهران. المؤكد أن معالي الأديبة الرائعة، لم تكن تعلم أن أسرابا من الأدباء، من البلد ومن أرض الله الواسعة، سيأتون لا محالة إلى الصالون الأدبي ،الذي لم يسمّ نفسه كذلك يوما، في بيت العاشقيْن في "الأرض الكبيرة" المقابل للحديقة التي افتتحتْها رسميا، وسيطلون على أشجارها وورودها وعصافيرها وهوائها، وهم يتناقشون في شؤون الأدب ويتحدثون عن أمور الإبداع، وربما يذكرون فعلتها البديعة بخير.! البيت الصغير ذاك، المطل على الحديقة العمومية المسندة لظهر عمارة Bt E 6 بالطابق الثاني، بابُه يبتسم منذ بدء خليقته لباب السيدة "أم محفوظ"، تلك المرأة المقاومة المناضلة في صمت، دون أن تعلم بذلك الجمعيات النسوية الطيبة. ظلت تبتسم في وجوه أولادها الأربعة وتخبئ دمعها لوقت آخر، ترعى العش الذي تركه لها زوجها المتوفى، الذي كان موظفا بسيطا في الجامعة. أمٌّ. لبؤة بقلب عصفورة. خلف بابها مدرسة في حسن الخلُق والشجاعة والصبر. تخرّج منها ثلاثة رجال رائعين وفتاة من تبر. وبعفوية الأمّ، لم تترك "أم محفوظ" أحدا منهم يطير من العش، إلا إذا أصبح قويا، واشتد ريشُ جناحيه. وكمثل الحلم، تشير لهم دوما إلى باب الجيران المقابل لبابها. الذي يطرقه العظماء من كل مكان. نعم صدقت أم محفوظ، إنهم يطرقونه ثم لا ينسونه أبدا على الرغم من بساطته. الصالون أوسع مكان من البيت الصغير، إلا أنه - والحق يقال- ليس أوسع من القلب. في جوّه الهادئ خلفيةٌ موسيقية كلاسيكية دائمة، خفيفة جدا حتى لا تكاد تُسمع. أُثِّث بالميزان بين البساطة والجمال، بتلك الأناقة الآسرة دون بهرجة. يسع الأهل والأصدقاء، من أدباء وفنانين وفلاسفة. يفتح على غرفة جانبية، هي بمثابة مكتبة عائلية محملة جدرانها برفوف الكتب، وتتراكم على زوايا أرضيتها عشرات العناوين التي جاء بها العاشقان من الشرق والغرب . بها مكتب خشبي يميل نحو الحمرة الداكنة وبعض الكراسي. يكتظ المكان بطاقة إيجابية عظيمة. لا بد أنه - لحد الساعة – لا يزال يحتفظ بصدى أصوات حاملة لأفكار مختلفة ترددتْ بين جنباته. بهسيس أدمغة مختلفة المنابع الثقافية، وباختلاف اللغات، تحاول أن تقنع أو تقتنع : -أين همو؟! هم الآن موزعون على الأركان الأربعة من الأرض، أو أنهم لم يعودوا من عالمنا السفلي المهيض هذا. نقاشات أدبية وفلسفية. حوارات. اختلافات. قناعات. ولادات لأفكار عظيمة وثرية وكتب مهمة وجميلة . أصبح جليا أنه لابد لمن يتخطى أعتاب وأبواب مدينة وهران من مجانين الأدب والفن، أن يدخل صالون "غراند تير" أو صالون "الأرض الكبيرة": كثرٌ همُو مرّوا..محمود أمين العالم، محمود درويش ، عز الدين المناصرة، أحمد حمدي، أحمد لمين، حسن فتح الباب، نبيل سليمان، محمد الطوبي، رشيدة محمدي،أم سهام،العربي الزبيري، الناقدة المسرحية العراقية لميس العماري، سهيل فرح...وووو... وفي ذات يوم من أيام صالون "الأرض الكبيرة"، حل الشاعر العظيم يوفتيشينكو بيننا، كان في أوج شهرته الشعرية. لم يكن يجر خلفه ثلوج سيبيريا كما يُتصور، بل قرأ لنا ولضيوفنا من أدباء ومثقفي المدينة الحاضرين بعضا من أشعاره المتدفقة بالحرارة الإنسانية المدهشة. لم يكن المترجم الساحر الذي أوصل لنا عمقها سوى مرافقه الصديق الأديب و المترجم عبد العزيز بوباكير، المثقف من الماس النادر، كأن في صوت عبد العزيز بوباكير نهرا من موسيقى اللغات. قليل الكلام. ساهم النظرة دائما. دائخها. وكأنه يتأمل في شجرة اللغة العملاقة ولا يراها أحد سواه. حين ينطق أخيرا بترجمته النادرة، يسقط الجميع من أغصان تلك الشجرة التي كانوا معلقين بأطرافها لقطف ما تيسر من المعنى. يسقطون وكفوفهم ملئى بثمرة الشعر. كل ذلك تحت نظرات ذلك اليوفتيشينكو الروسي العظيم. تدور عيناه الملونتان في محجريهما دهشة من موسيقى اللغة الغريبة على موسيقى لغته . يوفتيشينكو في الجزائر..؟! كان أمرا رائعا أن يزور يوفتيشينكو وهران، وأن أستضيفه في برنامجي ذائع الصيت آنذاك (حواء والدنيا)، برنامج ثقافي فكري بنصف ساعة فقط، لا جدران فيه بين عقول النساء والرجال، كان يبث على القناة الوطنية من وهران كل يوم أربعاء، جلستْ حول مائدته الحوارية أهم الأسماء. ولابد أن أرشيف إذاعة وهران يحفظها عن ظهر قلب. كان آخر سؤال لضيفي الشاعر الروسي الكبير: - أنت الشاعر الشهير يوفتيشينكو تسافر كثيرا وتنتقل بين مدن العالم . قل لي..ماذا تعني لك المدن ثم ماذا تعني لك وهران التي أنت بها الآن.!؟ ، فكر قليلا بعد سماعه لصوت عبد العزيز بوباكير الهادئ وهو يترجم فينقل له المعنى أقوى من اللغة ذاتها. هز يوفتيشينكو رأسه السيبيري ثم قال: -المدينة التي لا أمرض فيها ولا أُسرق فيها، ولا أعشق فيها، لا تعني لي شيئا..! أطرق قليلا ثم أضاف: -في وهران حدثت لي الأشياء الثلاثة.. لدي الأسباب الكاملة لأحبها.!