الذين يحلمون بربيع أخضر في أرض جرداء مخطئون. والذين يحلمون بربيع متحضر في مدن لا تعمل ولا تقرأ وتقهر المرأة وتكفر الفكر، مخطئون أيضا. فاستعارة الربيع رائعة لكنها مضللة.جميلة حين تكون النخبة قادرة على الفعل ويكون المبدعون والمثقفون في مقدمة دعاة الحرية والجمال. هكذا كان الربيع الذي اجتاح مدينة براغ في الستينيات وانتصرت الفكرة الجميلة رغم وحشية الدبابات السوفييتية. ويكون مضللا وبائسا حين تغيب الرؤية وتخبو الفكرة ويصبح الجهلة ودعاة القبح هم قادة الجموع. هكذا ظن كثير من العرب الطيبين أنهم جلبوا الربيع لبلدانهم وهم يهتفون للخراب. استثني حالات تونس ومصر واليمن. في الجزائر الجميلة كل يوم ربيع قائم بذاته وكل بقعة جزيرة عجيبة الألوان. لكن القبح الذي عشش في عقول البعض جعل كل شيء يبدو أسود قاتما.صبح القبح واليأس والثقافة السوء ثقافة عامة. كثير من قادة الرأي وصناع الفكر تحولوا إلى أركان للقبح في الساحة العامة. هكذا أصبح الفكر كفرا والحرية مروقا والجمال فتنة والعمل عيبا والريع مصدرا للرزق والسرقة غنيمة. وأصبح الجهلة وعديمو الذوق يتصدرون كثيرا من المجالس ويديرون النقاشات السطحية لملء الفراغ بالفراغ. يسيؤون للفكر وللذوق العام وهم يظنون أنهم يحسون صنعا. أما المبدعون والمنتجون وأهل الكفاءة فمنفيون مهمشون أو مضطرون للعمل تحت سلطة العاجزين. يحدث هذا في كثير من مجالات الحياة وقطاعات النشاط الاجتماعي والثقافي. الربيع الممكن في الجزائر حاليا ليس سياسيا ولا اقتصاديا ولكنه ثقافي. الثقافة همشت في الساحة العامة رغم أن الجزائر فكرة ثقافية أصلا. وحدة متنوعة تصدت للخراب عبر الزمن وواجهت الغزاة من كل نوع ونهضت من الرماد مرات عديدة وهاهي تقف في الرياح قامة جمال وإبداع في مواجهة القبح والجهل والتجهيل. الجزائر فكرة جمالية أساسا. بل صورة شعرية أولا وأخيرا. ومن لم يستوعب هذه الصورة البديعة فليعد النظر في نفسه: من كانت نفسه بغير جمال لا يمكنه أن يرى الجمال في أي شيء. الربيع ليس انقلابا شاملا يحدث من تلقاء نفسه في صحراء خالية من الفكر والجمال والذوق. الربيع استعارة جميلة لكل ما هو جميل في الحياة. الربيع اقتحام المجهول وخوض التهلكة في سبيل الجمال. الربيع عشق الضياء. اجتهاد الوردة وكدح العصفور وموجة العطر الفاغم من إبط الزهرة المتهورة. ثرثرة الساقية العاشقة للتراب وهدير النبع المتدفق بجمال الأعماق. ذهب السنبلة وارتعاش الفراشة حول النور. انطلاقة الشعاع الذي لا يعود أبدا كاشفا في كل لحظة فلكا جديدا. الربيع قوة الهشاشة الساكنة في أعماق كل جميلة. ربيع الشعر يبدأ من الشعراء أنفسهم. فماذا ترون أيها الشعراء؟ إن لم تروا شيئا جميلا فابدؤوا بالثورة على أنفسكم أولا وعلى محيطكم المباشر وعلى قصائدكم. كيف تكون القصيدة قصيدة والقبح سيدها والخوف رائدها؟ كيف يكون الشعر شعرا بينما الشعراء منصرفون للنميمة في مقاهي بائسة يتقاسمون قهوة فاسدة مشحونة بسكر مغشوش. كيف يكون الشعر جميلا والشعراء في استكانة؟ كيف تكون القصائد رائعة وهي تطأطئ قامتها الفارعة لشبح قميء؟ ربيع الجزائر شعري أو لا يكون. رؤية من لم تتملكه روح العاشق كيف يرى جمال الكون؟