ينبني النقد السياسي للثقافة على إجراء تقييم للثقافة وفئة المثقفين من خلال رؤية سياسية تجعل للثقافة دورا في الحياة السياسية. غالبا ما ينطلق هذا الفهم من الوظيفة السياسية للثقافة. ومن المقدمات المعروفة من هذا المنظور أن الثقافة نظام جزئي في النظام الاجتماعي وسياسية فرعية من السياسيات العمومية. ماذا لو عكسنا الموقف ونظرنا إلى السياسة باعتبارها امتدادا للفضاء الثقافي؟ كيف يجري نقد السياسة ثقافيا؟ 1)- نقد السياسة يبدأ بنقد الثقافة السياسية: أي نقد مجمل القيم والمعايير والممارسات التي تحكم سير المؤسسات السياسية نفسها والسلوك السياسي والحياة السياسة عموما. نقد يتجاوز الآليات السياسية إلى القيم التي تقوم عليها الحركة السياسية. ومن أمثلة ذلك أن السياسة لدى اليونان كانت مرتبطة بالفلسفة وقيمتها الأساسية هي اختيار العقل. ولكن عندنا الآن نجد أن كثيرا من المثقفين لا يرون في السياسة إلا النفاق والتلاعب والكذب والحيل للوصول إلى الهدف الأساسي لكل سياسة- حسبهم - وهو السلطة. مأزق المثقف في الوقت الحالي هو أنه متورط نوعا ما في الوضع الذي يحاربه. 2)-نقد الركائز الاجتماعية للعمل السياسي: يتصرف السياسي بوصفه حامل مشروع ليبرالي في المجتمعات الليبرالية في حين يتصف السياسي بصفته الأب أو الأخ الأكبر في النظم المستبدة ويقبل الجمهور السياسي هذا الوضع في كلتا الحالتين. ذلك أن للحياة السياسية ركائز اجتماعية مقبولة في المجتمع حيث يتم إبراز القيم الاجتماعية وبسطها على الحياة السياسية. يقف النقد الاجتماعي بالمرصاد للتصرفات السياسية في المجتمع السياسي وفضحها وكشف آلياتها وانحرافاتها. فالانحرافات السياسة لم تنشأ من فراغ. إنها وليدة المجتمع. 3)-نقد القيم الثقافية في الحياة السياسية: فمن القيم الثقافية فكرة الخير أو الشر أو الجمال وفكرة العدل والمساواة وفكرة الحرية والاستقلال وفكرة التضحية والبذل وفكرة البطل (القومي) أو المنقذ (الديني) ويتم إضفاء هذه القيم على الحياة السياسية. يقف النقد الثقافي بالمرصاد لهذه الانحرافات. تلك القيم لها وظيفة في النظام الاجتماعي وتتجاوز النقاش السياسي. 4)- نقد المنظومة الرمزية للحياة السياسية: تستند الحياة السياسية إلى منظومة قيم تعطي معنى للحركة السياسية وتحدد أهداف النشاط السياسي وتبرر الأفعال والتصرفات وتعطي معنى للسياسات المختلفة. هذه المنظومة الرمزية هي في جوهرها منظومة ثقافية تتجاوز البنية السياسية الظاهرة. هنا يكمن الاختلاف بين النمطين المذكورين من النقد: فالنقد السياسي يكتفي بنقد الممارسة الظاهرة وآلياتها ويكشف أوجه القصور فيها. أما النقد الثقافي فيتناول البنية العميقة للحياة السياسية : مكوناتها ودلالاتها وسياقاتها و مآلاتها. في حين يكتفي النوع الأول بتقييم الأحداث والأفعال والممارسات في أفقها الزمني المحدود. يمتد النقد الثقافي إلى البنية الأساسية للممارسة السياسية وإلى منظومة القيم التي تحكم الحقل السياسي وتتميز بنوع من الثبات فلا تتغير إلا في الأفق الزمني البعيد. 5)- نقد التفاعلات الشبكية للفعل السياسي: لم تعد الحياة السياسية تجري في نطاق إقليمي مغلق بل تتفاعل ضمن شبكة من الفاعلين ذوي المصالح المشتركة المتبادلة أو المترابطة. يعمل النقد الثقافي على كشف أولئك المتعاملين وفضح ارتباطاتهم المصلحية وتأثير ذلك على الحياة السياسية. أرى أن ما يجري في الحياة السياسية في بلادنا - وفي العالم المعاصر- لم يعد يكفي فيه النقد السياسي المعتاد بنقد تصرفات المؤسسات السياسية والفاعلين السياسيين وكشف خطئها أو كشف التجاوزات القانونية والدستورية أو كشف فساد العملية السياسية برمتها كما جرت عليه العادة. بل يتطلب الأمر البحث في البنيات العميقة وتحليل شبكة المصالح الشاملة للوقوف على ما يجري في الحياة السياسية. ومن جهة أخرى لم يعد يكفي نقد الثقافة والنخبة الثقافية وكشف ابتعادها عن السياسة أو نقد انخراطها في السباق السياسي بدون روية. بل لا بد من تطوير موقف ثقافي للنخبة: أي نقد المقولات العامة للسياسة بما يجعل الثقافة مصدرا للقيم النقدية والنخبة الثقافية قوة إيجابية في الحياة العامة لا موضوعا للتأنيب والعتاب كما سارت عليه الأمور حتى الآن. يتطلب الأمر إذن الانتقال من النقد السياسي للثقافة والنخب الثقافية إلى النقد الثقافي للسياسة والنخب السياسية. وتلك -في رأيي- هي مهمة الثقافة في المرحلة القادمة.