القيم الجمالية قيم رمزية تستوطن الآداب والفنون وأساليب الوجود والسلوك الثقافي والإبداعي. في المجتمعات المتقدمة تشكل الحياة الثقافية جزء مهما من حياة الناس وبذلك ينشأ طلب على المنتجات الثقافية لتلبية حاجات اجتماعية تتناسب وقيم الحياة. وخارج نطاق النشاط الثقافي يتم إدراج الإبداع في تصميم الإنتاج الصناعي والتكنولوجي وفي تصميم المدن والمساكن والمحيط وفي الحياة اليومية. هكذا أصبحت القيم الثقافية والجمالية رصيدا اجتماعيا مشتركا للمجتمع المتقدم: تدخل في قواعد السلوك ومعايير الحداثة وأرضية تسمح بالعيش المشترك في ظل التنوع والاختلاف. أهم قيمة تحكم الجمال والإبداع هي الحرية. الحرية منبع كل القيم الجمالية والثقافية والخلقية. هي قاعدة للحياة النفسية والجمالية والنشاط الاقتصادي أيضا. الحرية قيمة كبرى تسمح للفرد المكتمل بتحقيق ذاته والتصرف "بحرية" في كل شيء ما عدا تجاوز قيمة الحرية ذاتها. الشعر مصدر الأحلام الكبرى التي تغذي الفنون المعاصرة مثل السينما التي تبسط الأحلام وتجعلها في متناول غير الشعراء. أو قل تجعل كل الناس شعراء. هوليوود هي منبع الحلم الأمريكي وراعية روح التفوق. "حرب النجوم" كان فلما قبل أن يصبح مشروعا فضائيا ترعاه المؤسسة العسكرية الصناعية وقبل أن يتحول إلى واقع يعيشه العالم بأسره في القرن الحادي والعشرين. في المجتمعات المتخلفة نوع من النفور من القيم الثقافية باعتبارها رمزا للتخلف. القيمة الكبرى في فضاء التخلف تتمثل في القيمة العظمى للمركانتيلية: المال في شكله المعدني السائل القابل للإنفاق والتصرف. أصبحت القيم التجارية هي القيمة المطلقة المحددة لكل القيم الأخرى بما فيها القيم الجمالية. هذه الطفرة لها سبب يعود إلى الوفرة المالية في بلدان خالية من الثقافة بل مضادة للثقافة والإبداع. مر على الثقافة والفنون في بلادنا زمان كانت فيه مسيسة إلى درجة أنه لا وجود للثقافة والإبداع خارج الأجهزة الرسمية: الحزب والدولة. كان المسؤول الحزبي يتحكم في جموع المبدعين ويحدد لهم ما يجوز وما لا يجوز قوله. تغدق المؤسسة أموالها على الأنشطة التي تراها ضرورية-هي عادة أنشطة دعائية- وتمنعها عن غيرها مهما كانت قيمتها الإبداعية. معاييرها سياسية أو "براغماتية" لا علاقة لها بالقيم الجمالية. ما أن انتهى ذلك الزمن حتى استحوذت فئات أخرى على الفضاء الثقافي لإخضاعه للقيم الرائجة : قيم السوق. تم تسليع القيم الجمالية إلى درجة أن لم يعد للثقافة من وجود خارج الوجود التجاري. لكن السوق فارغة وكل سلعها مستوردة: المنتجات الاقتصادية والقيم الجمالية والمنتجات الثقافية: كلها سلع تستورد بالجملة وتباع في أسواق التجزئة. وفي غمرة هذا التحول ضاعت معايير التقييم الجمالية: المعرفة والخبرة والكفاءة أو الذوق وحلت محلها قيمة واحدة: قيمة السوق. المعيار الوحيد الصالح هو أن تكون للقيم الجمالية قيمة سوقية في السوق الوطنية ولا سيما في السوق الدولية. هكذا أصبحت المبيعات مثلا معيارا لتقييم الإنتاج الثقافي.مبيعات الأسطوانات الموسيقية مؤشرا للنجومية. مبيعات الكتاب معيار للإبداع الأدبي . في صالون الكتاب رأينا الأدباء يبيعون "منتجاتهم" يوميا ويفاخر بعضهم بعضا بما حققوه من مبيعات. بعضهم أصبح يقوم بعمل مندوب تجاري للناشر وأنه بحضوره -وهو النجم- يمارس ضغطا على الزبون يعاقب عليه القانون في حالة السلع الأخرى باعتباره ممارسة غير مشروعة: أخذ صورة مقابل شراء الكتاب: فالبيع المشروط غير مشروع . هذا الناشر الذي جند المؤلف في عملية البيع لم ينظم طيلة العام نشاطا ثقافيا أو محاضرة للقاء بين المؤلف والقراء أو لمناقشة أفكاره. بعض الناشرين أصبحوا هم أنفسهم مؤلفين "يبيعون بالتوقيع" في الصالون متباهين بأرقام المبيعات. تسليع القيم الجمالية هذا سمح بالتخلي عن إنتاج كل القيم الأخرى واستيرادها باعتبارها سلعا : حدث ذلك حتى مع المنتجات التي تحمل قيما ثقافية: المأكولات والملابس والأثاث المنزلي والمسكن والمسجد والمصنع والجامعة والبرنامج الدراسي والكتاب والمصحف والقميص والمنتوج التكنولوجي. بل المبدعون ومنتجو القيم الثقافية أنفسهم يتم استيرادهم من الخارج. بمن فيهم أبناء البلد. في البلد المتخلف الفاقد لمعاييره الجمالية والثقافية لا يعترف بالمثقف والفنان والشاعر والكاتب والباحث والأستاذ والخبير إلا إذا مر بالسوق الدولية. إذ عليه أن يهاجر ويثبت نفسه لدى الآخرين ثم يتم "استيراده " بالعملة الصعبة على انه (خبير دولي). القيم الجمالية والثقافية والمبدعون ومنتجو الثقافة والقيم كلها أصبحت سلعا تشترى أو تستورد أو يستقدم الأجانب لإنجازها في بلادنا: هناك خراب كبير يعمم باعتباره تنمية والأدهى أن يتم ذلك بإشراف مؤسسات رسمية. عناق منذ ثلاثين سنة أحاول أن أعانقك لكن أذرع العالم لا تكفي