لعل أكبر منكر، ابتلينا به – نحن تلاميذ القصور الطينية – زمن الصبى؛ هو سؤال المعلم لنا، بعد دخولنا من العطلة الصيفية: كيف قضيتم العطلة الصيفية يا أولادي؟ الغريب في الأمر، أن بعض المعلمين، يبلغ بهم التهكّم حدا لا يطاق، عندما يطلبوا منا في مادة الإنشاء الكتابي، أو التي صارت تُدعى التعبير الكتابي، أن نحدّثهم عن البحر وزرقته، والغابات وظلالها، والشلاّلات وخريرها.. هو عبث مبطّن، كانوا يلهون به عنا، ولا عجب!!.. إلى هذه الساعة، لازلت متحيّرا في ذلك السؤال الاستفزازي، الذي كان المعلمون والأساتذة يجلدوننا به، عقب كل دخول مدرسي.. مع أنهم يعلمون تمام المعرفة، كيف مرّت بنا العطلة.. لم يكن البحر، والاستجمام، واردا في قاموسنا مطلقا، كنا نودّع مقاعد الدراسة في نهاية العام، وننزل على قصورنا الطينية، ولاهمّ لنا في العشية الأولى من العطلة، سوى البحث عن ألواحنا، التي تكون قد ضاعت، أو عبث بها إخواننا الصغار، وفي صبيحة اليوم الموالي، نتأبط هذه الأخيرة، ونتوجّه نحو الكتّاب، أو كما نطلق عليه في عُرفنا التواتي ب(أقَرْبيشْ)، ومرادفه عند إخواننا الشناقطة (المحضرة)، قلت؛ فنذهب لذلك المرفق، لحفظ القرآن الكريم. كانت الكتاتيب القرآنية في تلك الفترة قبل دخول الكهرباء، ومجيء المراوح العلوية، عبارة عن أفران.. أي والله؛ أفران.. نحشر في سقيفة مستطيلة، بالكاد تجد متسعا لثني ركبتك أو مد ساقك، من كثرة العدد، بيد أن الفترة الصباحية، كانت أرحم من المسائية، بحكم خروجنا لرحبة الكتّاب، حيث يمرّ علينا الضحى متسامحا بظله وشمسه اللّطيفة، ونظل في ذلك الحال، نتتبع الظل، حتى يدركنا الزوال، فيفرج علينا مولانا الشيخ، بعد حفظ ألواحنا، وتكرار السورة الأخيرة. فترة القنوط والملل، كانت تصيبنا زمن المساء بالكتّاب، وهي أصعب الفترات الصيفية على الإطلاق، بحيث تبدأ بعد آذان الظهر، وهي فترة الذروة بالنسبة للحرارة، فنتكدّس في تلك السقيفة، حتى يشكّل العرق منا سيولا وأودية، مع ما يمكن أن يزكم أنوفنا، من تلك الروائح الجلدية النتنة، على أية حال، يظل الجمع يتمتم ويجهر بالقراءة، حتى يأتي سيدّنا من صلاة الظهر، بعدها يتعاور عليه الكبار في تكرار أحزابهم، ليخرج بعدها لصلاة العصر، فنجد في هذه الفرجة، متسعا للّعب والاستراحة، وربما الخروج من ذلك الفرن الساخن، لتستمرّ فترة القراءة والحفظ والتكرار، لما بعد العصر، ومع مجيء سيدّنا من صلاة العصر، يبدأ في تحفيظ الصغار أولا، ليأتي دور الكبار. المهم بعد خروجنا من أقربيش، والأصح بعد الإفراج عنا منه زمن العشية الضيّقة، نهرول لمرابط حميرنا، وننطلق نحو السباخ والبساتين، حيث نكون على موعد يومي برفقة الأتراب، لتنظيم مباريات لسباق الحمير، وقد نجد وقتا، لتمليح البصل. والحق يذكر، أن هذه الفسحة، تعتبر فرجة كبيرة لنا، لا نقدرها بثمن، لكوننا كنا نحسّ فيها بالحرية، لنعود بعدها مع المغرب للقصر، وبعد ربط حميرنا بمرابطها، نعود ثانية للكتّاب، وفي العادة نتحلّق على سطحه، ونقرأ حزبي (عمّ والأعلى)، ونطلق عليهما في عُرفنا ب(سوّر الليل)، لينتهي يومنا بالعشاء على سطح البيت، نذيّله بشربة ماء باردة من القربة المعلّقة، لنستسلم بعدها لنوم عميق. ومع توالي يوميات الأسبوع، في هذا الدوام الصعب، يبقى انتظارنا واعدا، لنهاية الأسبوع (الأربعاء والخميس والجمعة)، لنأخذ العطلة الأسبوعية، وننغمس مجدّدا وبصفة مريحة، في ألعابنا وسباقاتنا. ثمة أمر آخر، لا يمكن القفز عليه في معادلة يوميات عطلتنا الصيفية، وهو ذلك التسابق المحموم، من طرف الآباء والأولياء، مع اقتراب الدخول المدرسي، في جرّ أولادهم من الكتّاب، ومطالبتهم بنقل الغبار والسّماد للبساتين، بحيث تصبح الأحمرة أغلى من الذهب، فمتى رأيت هذه النزعة الأبوية بالقصور الطينية، مصحوبة بغبار الحمير في الأزقة المؤدية للسباخ والبساتين، من تلك الأيام، فاعلم يقينا، أن فترة الدراسة، قد قرُبت. ببساطة.. هكذا كنا نقضي العطلة الصيفية، لا بحر، ولا استجمام ولا هم يحزنون.. وبالرغم من هذا كنا قنوعين بذلك، كما اقتنعنا بالكرة المصنوعة من ليف النخيل، والسيارة المصنوعة من الحديد البالي، والطائرة المصنوعة من الطين.. كنا نرى شواطئ البحر والغابات، في كتب القراءة فقط، وعندما يلزمنا المعلم بالتعبير عن زرقة البحر، وخوفا من عصاه، أو حبا في النقطة، كنا نلتمس من خيالنا الساذج تعابير تدعو للضحك، وهو ما وقع بالفعل مع أحد معلمينا.