القدس عروس عروبتكم فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفاً وصرختم فيها ان تسكت صوناً للعرض فما أشرفكم أولاد !!... هل تسكت مغتصبة. هذا صدري البحر، مشرع للهيب النار. هذا قلبي الغمام، مفروش بدم الغائبين والراحلين قسرا. هذا حضني الأجوف تحتمي به أمهات الشتات تخبئ في القلب أزهارها الهشة وما تيسر من الجرح والأنين المكتوم. هذي يدي ملفوفة بالضباب تستدفئ بحلم عرائس لم تجلى في مهب أي فرح ولو عابر. أنا القدس خففوا الوطأ على جرحي، لا تسرقوا مني عطر الجدات ولا لغة الأنبياء ولا لون التربة ولا صراخ الحجر ولا غلة الأجداد، لا تفتتوا ملامحي على قمم الخداع والزيف وتوزعوا دمي على غيم لا خراج له. هنا قوافل النسيان تستبيح أحلامي، تسكب زيتي وتسفّ الملح المقدس من دمي وأنا أعانق الله بكل معابدي وكنائسي ومساجدي. في الصدر تعرش غصة الزيتون وحرقة الليمون ويتسامق نخيلي ويتباهى ريش الحمام طاووسا. هنا منتهى الدمع ترقص على وقعه الظلال الباهتة. لا تسلخوا أكثر زغب عصافيري ولا تذبحوا صرخة أول مولود عند أبوابي ومداخل ما تبقى من قلبي. أنا العروسة حنائي دم الشهداء وزينتي تطريزات ورموز وعلامات وأوشام نساء غابرات خبأن الأصابع في جذع الأشجار وهمس التربة الندية ورشقن العيون في السماء حتى لا يخبو ضوءها ولا ينطفئ فيها البريق. لا تسرقوا الماء من عيوني ولا ترتبوا فوضى أطفالي العنيدين المشاكسين المشاغبين، أتركوا ما بعثروا وشتتوا من حلم وأمل وأشواق وشغف وقبل وحنان في حاراتي، أتركوا المحافظ والأقلام والخربشات والألوان وما رسموا من كلام وملامح ووجوه وبيوت ومفاتيح وحدائق على الحيطان، هو تاريخهم المحفور في دمي. لن أتعب ولن أمل من الانتظار، تعودت السهر على أول الصراخ ولون الرمان ونوار الزعتر وزهر الفل وعطر الهيل. فأنا لا أغفو إلا حين يسهو السجان عن حقده، لحظة يغرس رأسه في الحجر الصلد. يا هذا الزمن المخبول، اتسعت المسخرة واحتفل الزيف بجنازة الصدق. أيها الزمن المكبل، أنا الحاضرة حين يحضر الغياب، يسكنني الوجع العنيد أداري الوحدة أختبئ في عيون هاربة من المجهول. أنا العابرة للصمت وللنور أنسج جسوري من خوف لا يخاف من الخوف ومن فرح مؤجل إلى حين. كاد يختنق في النفس، هنا سلاح من كلام ودبابات من وهم وأكوام من الخطب مكدسة عند الحواف المفتعلة. أيها الزمن المجروح كما جرحي!! بنوا لنا جزرا ما بين السماء والأرض وشيدوا لنا قصورا على موج البحر وشقوا لنا أبوابا في سابع سماء. لم نتعود على كل هذا العطاء وهذا السخاء وهذا الجود وهذا الكرم. يا من شاخ وصدئ على شفاهكم اللغو، نحن فقط نحلم بما ضاع وبما سرق من وطن بين رصاصة وطعنة خنجر. المقطع للشاعر العراقي مظفر النواب.