إن إحدى الصفات المميزة للمجتمعات العربية هي تحول القوى البشرية الى سلعة تباع و تشترى, تصدر و تستورد و تخضع لقانون السوق بالعرض و الطلب, و أمام هذا القانون المبهم و السحري- الذي يشل و يعيق أصحاب القرار- تسقط كل الاعتبارات الأخرى الوطنية و الإنسانية و الاجتماعية و غيرها. و بلادنا كإحدى الدول التابعة لنظام اقتصادي مبهم تسري عليه أحكام قوانين هذا النظام و ربما أكثر حدة مما هي عليه في الدول المسماة بالرأسمالية نفسها . وهكذا اخترقت البطالة صفوف السلك الطبي و أجبرت قوافل من دكاترة الصيدلة وجراحة الأسنان و الطب العام على البحث عن عمل، و قد لا يقل عن نصف هؤلاء الدكاترة إعاقتهم من طرف مديريات الصحة و إصلاح المستشفيات عن أداء مهامهم و لا يزالون ينتظرون دورهم لفتح صيدليات و عيادات وما بدلوا تبديلا. و بذلك يصبح عددا كبيرا من السلك الطبي المسجلين في مجالس أخلاقيات الطب في حالة بطالة سواء كانت سافرة او مقنعة. وهنا أنا أعتقد أن باستطاعة بلد كالجزائر أن يفخر باعتباره البلد الوحيد الذي يشتهر بهذا النوع من البطالة الطبية. و إذا علمنا بان السلك الطبي العام ليس وحده في هذه المصيبة بل إن هناك جيشا كاملا من العاطلين عن العمل مع نهاية 2016. كما اتضح أن لدينا قضية خطيرة يجب الإسراع في حلها، و لدينا سلسلة إجراءات كفيلة في حال تنفيذها بحل القضية الخطيرة، وإحدى حلقات هذه السلسلة هي دراسة وتقييم السلك الطبي المقيم و اقصد الصيادلة المقيمين وجراحو الأسنان المقيمين و الأطباء العامون المقيمين و المتواجدين تحت الإقامة الجبرية بالمستشفيات الجامعية و كليات الطب. هؤلاء الزملاء مظلومون و ضائعون و تائهون، لا وزارة الصحة راغبة في إنصافهم ولا مجالس أخلاقيات الطب راغبة في الصدام مع وزارة الصحة من أجلهم ، مع أن الأمر لا يحتاج إلى صدام، و يبقى السلك الطبي المقيم يعيش على آمال موسمية يشغلها في قلوبهم المرشحون كلما لاحت في الأفق رائحة انتخابات أعضاء الفروع النظامية لمجالس أخلاقيات الصيدلة و جراحة الأسنان و الطب. إن السلك الطبي تقع على عاتقه صرف الأدوية و مراقبة الوصفات الطبية و تسيير الصيدليات الاستشفائية ناهيك عن التحاليل المخبرية و آخرين تقع على عاتقهم الفحوصات والعمليات الجراحية و المداواة، و آخرين من دونهم لا تعلمونهم وزارة الصحة تعلمهم يساهمون في العلاج الفموي. إرهاق للمقيمين واستنزاف لطاقات المستشفيات الجامعية وكليات الطب في الجزائر . فالمقيم في علوم الطب يعمل يوميا بين المستشفى و كلية الطب أو ما يسمى بالطب الترحالي، و مع العلم أن الأسبوع مكون من سبعة أيام عمل، أي أن المقيم محروم من عطلة نهاية الأسبوع و التي تنص عليها كل القوانين الدنيوية ناهيك عن الأعياد و المناسبات الأخرى ومن المقيمين في السلك الطبي من يقيم بمخابر كليات الطب أناء الليل و أطراف النهار. لقد تعلمنا في المدرسة أن العامل في القرون الوسطى كان يعمل 16 ساعة في اليوم و بدون استراحة أسبوعية و قالوا لنا هذا اسمه " عبودية " ، فماذا يا ترى سيقول الذين علمونا إذا علموا أن المقيم في علوم الطب يعمل بنفس تلك الشروط ، وفي عام 2017. وكما فإن التاريخ يعيد نفسه و لكن بصورة محزنة، قد يكون هذا الوضع مبررا بتحفظ في الأيام الغابرة عندما كان هناك نقص في إعداد الصيادلة و أطباء الأسنان و الأطباء عموما، لكننا نستهجن الإصرار على استعباد هؤلاء الزملاء الصغار، و نحن نرى هذا العدد الهائل من الشباب الحكيم يلجون أبواب الوزارة بحثا عن وظيفة. أمر لا مبرر له إطلاقا بل أكثر من ذلك صيادلة و أطباء أسنان زبدة البكالوريا يقضون ستة سنوات من الجد و المثابرة والانضباط يصنفون في رتبة 14!!؟ أمور لا تصدق فالإقامة الجبرية داخل كليات الطب و المستشفيات و لساعات طويلة يستغرقها الدكتور المقيم بالغبن و الإرهاق النفسي و الجسماني يخلق لديه شعورا بالضيق و الضجر من العمل، ما ينعكس سلبيا على قدرته على التركيز وعلى حماسه وعلى حيويته و نشاطه و أسلوب تعامله مع الطالب و المريض.وعندئذ يبدو المقيم و كأنه ينفذ واجبا قسريا لا هواية محببة له. و تعتبر علوم الطب فن من الفنون الجميلة هو أدب و علم معا و ليس الأدب أن تتأدب وإنما الإحساس بالمعاناة، لذلك يتوجب على السلك الطبي الذي يعيش في عالم الآلام و الأفراح والجنون و العقل و الحكمة و يتعامل مع مريضه قبل تعامله مع مرضه هو جوهر علوم الطب و أساسه المتين وأخلاقيات الطب لا تكمن في إصلاح العطب و إنما في الرحمة والهدف من العلاقة بين السلك الطبي و المريض ليس بالضرورة الشفاء ، و إنما أيضا المساعدة و التوجيه و المصاحبة و الاستماع و الإنصات........ وهناك قضية يجب أن يكون لها اعتبار و هي تعاون المريض مع السلك الطبي و لنتذكر قولا من أقوال هيبوقراط : ثلاثة أشياء تصنع الطب : المريض و المرض و السلك الطبي و الجميع يعلم أن أطباءنا حاذقون لمهنة دقيقة فلننزل الناس منازلهم.