هو مسرح بني على تجربة متفردة جاءت استجابة لرغبة مسرحية مبطنة. المسرح الدائري هو من أجمل أنواع المسارح التي اقترحتها الشعوب في تجاربها الفنية المميزة. تسمح للجمهور بأن يكون محيطا بالحلقة وليس مواجها لها كما في العلبة الإيطالية التي تتسم بالكلاسيكية والخطية والجمود أحيانا، وهو ما يتنافى مع الجمهور الشعبي الذي يريد ان يكون شريكا في الفعل المسرحي. الكثير من الفنانين العرب من رواد مسرح الحلقة وعلى رأسهم عبد القادر علولة وغيره، ساروا وفق هذا المسار. فقد اختاروا مسرحا يوصل القضايا الإنسانية والمجتمعية بسهولة أكثر، من خلال الوسائل الفنية التي تتطلبها الحاجة المسرحية المحلية. اختاروا لذلك مسرح الحلقة، أي الدائري الذي يجعل الفعل المسرحي قريبا جدا من المشاهد. نموذج ليس بعيدا عن المسارح الأوروبية الطليعية التي رفضت اللعب على خشبة العلبة الإيطالية المترسخة، أو الأمريكية في Brodway التي أنجزت فيها المسارح الدائرية القريبة من الجمهور، بحسب المدرسة التي ينتمي لها هذا المسرحي أو ذاك. فقد اجتهد رجال المال والأعمال في أمريكا، المحبون للمسرح، في تشييد هذه المسارح التجريبية الصغيرة الدائرية استجابة للمعطى الفني. يمكنك في نيويورك اليوم أن تختار المسرح الذي تريد. وهو للأسف ما لم يقم به رجال الأعمال في البلدان العربية. لم يستثمروا في هذا النوع من المسارح أو غيره. بل أن الحقل الفني برمته لا يعنيهم تجاريا. لهذا لم تتمكن التجارب المسرحية العربية التجريبية أن تجد طريقها لتنفيذ رؤيتها المسرحية. وظلت تعيش تمزقا كبيرا. تنفذ مسرحا دائريا في عمق العلبة الإيطالية. فظلت التجربة المسرحية العربية في الكويت، الجزائر، المغرب، تونس، لبنان، يغلب عليها الحلم والجانب النظري، أكثر من الواقع الفعلي مجسدا على مسرح دائري كما حلموا به. فقد مُثلت الكثير من المسرحيات الأولى للشعب في الشوارع، وفي القرى، وفي الفضاءات المفتوحة العارية من أي ديكور إلا ديكور الطبيعة. لكن هذا وإن خفف من ثقل العلبة الإيطالية، لم يحل المشكل أبدا. فالمهمة على نبلها وخصوصيتها، تبقى فعلا ثقافيا رهين اللحظة، سرعان ما ينتهي بمجرد ما تعود الفرقة إلى مسرحها الذي تلعب وتتدرب فيه والمتوفر لديها، المنمّط وفق العلبة الإيطالية. يمكننا أن نسمي هذا النوع من المسرح الممثل خارجا، بمسرح المؤقت، أي l'éphémère. أي الذي ينتفي بمجرد الانتهاء من أدائه. وربما لو وجد هذا الجهد مسرحه الدائري لتطور في ظروف طبيعية ولتحول مسرح الحلقة إلى خيار فني مسرحي قائم بذاته. ما يبقى في هذه التجارب والجهود الباحثة عن مسرح يناسبها، ليس المسرح الممثل في الهواء الطلق، وفي الشوارع، فهي لا تحتفظ إلا باللحظة الطارئة، ولكن الرغبة في الخروج من دائرة النظام الأرسطوطاليسي كما سماه المرحوم علولة، وخوض غمار تجربة إنسانية جديدة، بأفق جمالي آخر. مسرح العلبة الايطالية لم بعد كافيا أبدا. بل لا يؤدي الغرض المطلوب في علاقته بالجمهور وبالثيمات الشعبية المعالجة. في محاضرة له ألقاها في برلين سنة1987 في المؤتمر العاشر للجمعية الدولية لنقاد المسرح، تحدث عبد القادر علولة عن الطريق التي قادته إلى اكتشاف مسرح الحلقة أو الدائرة، ويبدو من محاضرته، أنه اكتشف هذا الشكل بالمصادفة، وبالتحديد عن طريق احتكاكه بالواقع الحي حين أصبح يتنقل بفرقته في جولات فنية لتقديم العروض خارج صالات العرض المعروفة، أي على طلاب الثانويات والجامعات، وعلى عمال الورشات والمصانع، وعلى الفلاحين في الحقول، مع العلم أنه كان قد أحس بأن العلبة الإيطالية لا تناسب مشروعه، وضرورة البحث عن شكل جديد يبعد العروض المسرحية عن التكرار الممل، وعن طغيان الخطاب السياسي المباشر الذي يكاد يحولها إلى بيانات سياسية: " وفي خضم هذا الحماس، وهذا التوجه العارم نحو الجماهير الكادحة، والفئات الشعبية، أظهر نشاطنا المسرحي ذو النسق الأرسطي محدوديته، فقد كانت للجماهير الجديدة الريفية، أو ذات الجذور الريفية، تصرفات ثقافية خاصة بها تجاه العرض المسرحي، فكان المتفرجون يجلسون على الأرض، ويكونون حلقة حول التنظيم السينوغرافي (La disposition scénique)، وفي هذه الحالة كان فضاء الأداء يتغير، وحتى الإخراج المسرحي الخاص بالقاعات المغلقة ومتفرجيها الجالسين إزاء الخشبة، كان من الواجب تحويره. كان يجب إعادة النظر في كل العرض المسرحي جملة وتفصيلا." هذا الرفض هو جزء من ثورة جيل من المسرحيين العرب، لم يجدوا اليد الثقافية المسؤولة التي تدفع بمشروعهم إلى الأمام استجابة لتجريبية نبعت من عمق الخيارات الثقافية الوطنية والمحلية في علاقاتها بالهواجس الانسانية المشتركة. وظل هذا الجيل التجديدي رومنسيا حالما بالمعنى الثقافي والأدبي والحضاري إلى أن انتهى ولم يجد من ينهض بمسرحه.