اختزل الممثل المسرحي أحمد بغالية في عمله المونودرامي الجديد " قرص إلا ربع " مجموعة من الانشغالات الاجتماعية والسّياسية الصعبة التي طالما أرّقت المواطن الجزائري، وسلبت منه الحق في الحياة الكريمة، حيث خاض رفقة مصمم العرض الطيب رمضان رحلة درامية موفقة على متن سفينة ركحية أشرف عليها محمد آدار بمعيّة الجمعية الثقافية "مسرح المدينة" لوهران . وقد كان الهدف من العرض هو تعرية الواقع المعاش وتصوير بعض المظاهر السّلبية المتفشية فيه، بأسلوب عبثي، يحمل الكثير من الدلالات المُوجعة التي وصلت إلى المتلقّي بطريقة مباشرة بفضل القدرة الحركية المذهلة للممثل الذي جمع بين الأداء الانفعالي الغاضب والحزين و الآخر التّهكمي السّاخر، إلى جانب الرؤية الفنية الموفّقة للطيب رمضان الذي أدار أدوات اللعبة المسرحية بإحكام و رفع وتيرة الاحترافية إلى مستوى أعلى. مسرحية " قُرص إلا رُبع المفعمة بالرموز و الإيحاءات، انصهر فيها الواقع بالخيال بطريقة تراجيدية تهكّمية، رسمت مساحات معينة لقراءات يحتدم فيها الصراع بين الأفكار والسلوكات، وبين غياب الضمير المهني والاستغلال الإنساني، لدرجة أن المشاهد نسي أنه يتابع عرضا مسرحيا ، واندمج مع شخصيّة " تحريشة" المواطن البسيط الذي وجد نفسه أمام حالات نفسيّة وذهنية مُعقدة، بسبب البؤس الذي يعشيه في مجتمع تسوده مظاهر الفساد والرشوة ، فضلا عن الانتهازية و الأنانية على حساب الآخر،.. ويتجلى ذلك كله عندما يأخذ " تحريشة " والدته إلى المستشفى إثر تعرضها لوعكة صحية ، وهناك يبدأ سيناريو " الترقاع من طبيب إلى طبيب " و " المعريفة" و" اعطيني دراهم نعطيك الدم" ..وغيرها من الصور المشينة التي أبرزها فريق العمل في مشاهد جريئة، واقعية المضمون وعبثية الشكل، قدمها الممثل بوعي فني ودلالات عميقة لا يستهان بها ، مؤكدا أن التسيب وغياب روح المسؤولية يقتلان روح المريض قبل جسده. أما فيما يخص البناء الدرامي للنصّ ، فلم يكن معقّدا أبدا، إذ كان من السّهل على المتلقّي فهم كل ما كان يحاول " تحريشة " إيصاله عبر حركاته و لغته الشعبية الوهرانية التي ساعدته على التواصل أكثر مع الجمهور، هذا الأخير الذي استمتع أيضا بالفقرات الغنائية الموسيقية ك " المداحات" و " القصبة " التي أضفت جوا من الفرح على العرض وعكست المسكوت عنه بطريقة طريفة مشحُونة بالدّيناميكية والحركة . و ما يمكن الإشادة به أيضا في مسرحية " قرص إلا رُبع" ، هو توظيف الرسومات الكاريكاتورية باستخدام شاشة عرض كبيرة و تقنيات بصرية جميلة، كان لها تأثيرها الإبداعي والفكري على نفسية المشاهد، كنوع من الأساليب التعبيرية الجديدة في فن الخشبة، حيث أنها قدمت الإطار الشكلي للعرض بطريقة مغايرة لم يألفها الجمهور المسرحي من قبل، فالرسومات التي وقعها الكاريكاتوري غالم سليم استُثمرت بشكل جيد في العرض وساعدت على صياغة دلالات فنية معبرة مبنية على البساطة و الرموز والتراجيديا في نفس الوقت، كما وظف فريق العمل في العرض المونوردرامي شخصيات حضرت من خلال الصوت فقط ، بمشاركة كل من الفنانة زاوش حورية ،شيخي روميسة و كذا فاطمة بلهاشمي، إضافة إلى الطيب رمضان و أحمد بغالية، حيث جسدوا شخصيات كثيرة ، منها الممرضات، وعاملة التنظيف و أيضا والدة " تحريشة " التي كانت تنادي ابنها و تصرخ من الألم، فضلا عن الطبيب وصديق " تحريشة " و شّخوص أخرى لم يرها المتلقي لكنه سمعها فقط، وأدرك تناقضاتها وصراعاتها و أنانيتها وطيبتها . ...وهكذا فإن مسرحية " قرص إلا ربع " ليست مجرد امرأة مرضت ، بل هي قضية حومة ..وقضية ..ولاية..ووطن..وأمة..ضيعت هويتها ."