دعيت ذات يوم لتغطية إعلامية للعرض العام لمسرحية موجهة للأطفال ، وقد تعودت قبل ذلك اليوم على اصطحاب عدد من أطفال عائلتي الكبيرة إلى المسرح مع كل مناسبة عرض مسرحية للأطفال. لكن هذه المرة و نظرا لضيق الوقت قررت الذهاب بمفردي على أن اصطحبهم في مرة قادمة لنفس العرض المسرحي. و كم كانت سعادتي كبيرة و أنا أتابع منكسر الخاطر أطوار هذه المسرحية لقراري الصائب بعدم جلب أطفال العائلة لمشاهدتها. و لكن بقدر ما كانت سعادتي كبيرة كان حزني عميق و غضبي شديد على هذا الاستهتار و الاستخفاف بالعشرات من الأطفال الذين تاهت عيونهم و عقولهم أمام مشاهد ناطقة بدون حياء و لا خجل، بعيدة كل البعد عن مسرح الطفل. فصرفت نظري عن الخشبة و ما كان يحدث عليها من صخب، و حولت بصري إلى هذه الوجوه البريئة التائهة ، لعدم قدرتها على تتبع أطوار هذه المسرحية المتشعبة و غير الواضحة . و تساءلت في نفسي هل أنا في مسرح محترم تحكمه ضوابط أخلاقية و إنسانية أم في سوق همجي يسيطر عليه أشباه تجار لا يولون للشاري أدنى احترام؟ لكن ما الذي جاء بهذه الجموع إلى هذا السوق...عفوا المسرح؟ حينها أدركت الإجابة عن سؤالي. بالفعل نحن لسنا داخل سوق . و لو أن الأجواء السائدة تتشابه تماما مع تلك المتعارف عليها داخل الأسواق. لكننا داخل مسرح. و الذي أتى بنا إلى المسرح هو حبنا للمسرح. هو رصيدنا نحن كأولياء اكتسبتاه منذ أن كنا في سن أطفالنا الذين اصطحبناهم اليوم إلى هذا الصرح الثقافي، لقد قضينا أجمل أوقات من طفولتنا الزاهرة أمام عمالقة بقلوب صديقة ووجوه طليقة و أصوات رقيقة. عمالقة صنعوا من الفن مسرحا و من المسرح فرجة و من الفرجة رسالة فهمناها و استوعبناها و ترعرعنا على مضامينها النبيلة . و انا احدث نفسي و أحث عقلي على استحضار هاته الحقبة الزمنية الوردية، و إذا بالمشاهد التي كانت تدور في فلك الخشبة تختفي فجأة و الأصوات الصاخبة تهدأ و يعم القاعة سكون تتخلله قهقهة لم تكن غريبة عن مسامعي..قهقهة بصوت رقيق ناعم ، إنه هو صاحب هذا الصوت الدافئ ..نعم إنه هو لقد عرفته و كيف يمكنني أن أنساه ..إنه صديق الأطفال حديدوان..هذه ضحكاته و نبرات صوته التي صنعت الفرحة على وجوه أطفال تلك الفترة من الزمن. لا مستحيل أن يكون هو.. لقد رحل عن عالمنا غادرنا بدون رجعة، في يوم من أيام تسعينيات القرن الماضي. لا..نعم.. إنه هو ها هو ظله يتجلى و يعم خشبة المسرح ..كيف يمكن ؟..هذا الشخص الذي اقتحم خشبة المسرح و يقف أمامي بكل بساطة يرفضها عقلي هو حديدوان..هل أنا أحلم أحلام اليقظة؟ ..حديدوان يعود إلى الحياة؟ حديدوان بثياب المهرج و احمرار أنفه و قبعته البنية وبياض شفتيه يقف أمامي ..لقد توقف عن الضحك و اختفت الابتسامة من محياه، و اكتست وجهه غمامة حزن. دنا من حافة خشبة المسرح و اقترب مني إلى حد ملامستي و كأنه يريد أن يكلمني على انفراد ..نظر إلي مطولا ثم خاطبني بصوت تائه : أين أنا؟ أنت في المسرح..قلت..المسرح؟ قال متسائلا، ثم سكت هنيهة قبل أن يواصل: لم أعد اعرفه..ثم نظر إلى الأطفال الذين امتلأت بهم قاعة المسرح و سأل: و هؤلاء...؟ أطفال..قلت. أطفال؟.. لا يبدون كذلك..يختلفون عن الأطفال الذين كنت أعرفهم ، قال. أنا واحد منهم..قلت. نظر إلي بتفحص ثم صرف نظره عني و قال: لكنك حزين. حزين على فراقك، قلت. ألهذه الدرجة تحبني ؟ قال. بل أكثر ..قلت. لكنني تواريت عن بعض الأنظار فقط و لم أختف تماما لو تفقدتني لوجدتني..قال حديدوان. تواريت؟ بل توفيت ..مت و انقطع عملك..قلت. لا.. أنا لم أمت..و لن أموت.. صاح هذه المرة الرجل بنبرة من الغضب ..لا أسمح لك بهذا الكلام..لو كنت تحبني حقا لما تلفظت بهذا القول. كنت دائما موجود و سأبقى كذلك قريبا ممن يذكرني..لكن يبدو لي حتى من أحسنت الظن فيهم نسوني و أدرجوني في تعداد الموتى. سكت لوقت قصير تاركا بصره يسرح بين أركان قاعة العروض المسرحية ، ثم قال: كل شيء تغير عني..أحس و كأنني غريب عن هذا المجتمع الذي ترعرعت فيه ، عن هذه الخشبة التي كثيرا ما صلت و جلت فوقها تحت ضحكات و تصفيقات أطفال ليسوا كهؤلاء .. ماذا يفعلون هنا؟ من.. الأطفال؟ سألت. اكتفى بتحريك رأسه من الأعلى إلى الأسفل . جاءوا ليشاهدوا عرضا مسرحيا ..قلت. أتسمي هذا عرض مسرحي؟ صاح الرجل ..أين ؟ صحت بدوري و قد بدأ الفزع يكسوني ، بعد أن اختفى محدثي فجأة و عاد مشهد الصخب ليعم خشبة المسرح و القاعة ككل. أمامك على الخشبة. رد صوت الرجل المختفي. أنا أبحث عنك أنت ..قلت. أنا بجنبك.. همس حديدوان في أذني اليمنى. فاستدرت لأجده جالسا على يميني، كم كان هذا التحول المفاجئ مروعا، لو كان هذا الجالس بجنبي مخلوقا آخرا غير حديدوان لكانت روحي عند بارئها الآن . و لكنه حديدوان صاحب الوجه الباسم محبوب الصغار و الكبار. و ها هي مشاهد الصخب تختفي من جديد و تنجلي أمام سحرية المكان و الزمان و عظمة الإنسان. أتسمي هذا عرضا مسرحيا؟ سألني جليسي من جديد. كان يفترض أن يكون كذلك ، قلت. و قلت أنه موجه للأطفال.. قال حديدوان. كان يفترض كذلك.. أجبت. الآن عرفت لماذا هؤلاء الأطفال ليسوا كأطفالي، قال حديدوان.. الآن عرفت السبب الذي جعل هذه الوجوه شاحبة و هذه العقول تائهة .. منذ متى و أنتم تخضعون هذه البراءة إلى جلسات تعذيب مثل هذه؟ ..أنتم تغتالون أجمل عمر يمر معه الإنسان.. هل فعلت بكم هذا لكي تفعلوه أنتم بأبنائكم؟ لست أنا ..قلت .بل أنت و أنتم جميعا كل واحد منكم له نصيب من المسؤولية، قال الرجل الذي اسود وجهه من شدة الغضب. لا أصدق هذا ، كيف يمكن لهذا الانحطاط أن يحصل في وقت وجيز ؟ غبت ليوم أو بعض يوم لأجد كل شيء في غير مكانه. بل لقرابة 22 سنة قاطعته. ، ثم استدركت أن عقلي لم و لن يقبل فكرة عودة الموتى و أضفت: و لا تزال غائبا. تجاهلني الرجل ثم واصل: أين الرسائل التربوية التي كنت أبعث بها إليكم ؟ لطالما ظننت أنها ستظل راسخة في عقولكم ؟ منحت عمري في سبيل إسعادكم و رسم البسمة على وجوهكم ، أضحكت حتى الباكي و الحزين من بينكم، سخرت حياتي كلها لتربيتكم ، كنت صادقا معكم، فلما لا تصدقون مع فلذات أكبادكم ؟ ما هذا الذي يحصل ، هل أعلنتموها حربا على الطفولة ؟ ليس الكل . قلت. لحسن الحظ لا تزال هناك خيوط الأمل في بعض المهرجين. بعض ؟ هذا يعني أن السواد الأعظم ممن ارتدوا ملابس المهرج لا أمل فيهم.. قال حديدوان. ثم نظر إلي بحزم و سأل: هل انت مهرج؟ بل أنا صحفي.قلت. جميل..رد حديدوان .هل معك قلم و ورق ؟ نعم..قلت. إذن أكتب هذا الإعلان الرسمي و انشره في جرائد المدينة، أنا السيد إيقاش محمد رؤوف، المعروف في الوسط الفني ب*حديدوان* و نظرا لما لاحظته من تقصير و انحراف خطير عن مسار مسرح الطفل ، قررت العودة على جناح السرعة إلى المسرح. لأتمم ما كنت أظن أنني أنجزته مع أطفال ثمانينات القرن الماضي . بعد آن اتضح لي أن الرسائل التربوية و التشبع بالروح الوطنية التي كنت أغرسها في نفوسهم تحتاج إلى غرس جديد ، و لذا أوجه دعوة إلى أطفال تلك الحقبة الزمنية لحضور أول عرض مسرحي مع صديقهم حديدوان بعنوان *حديدوان يعود إلى الميدان* ..مرحبا بكم. و الآن انهض و اذهب إلى عملك لتنشر هذا الإعلان.. قال حديدوان. انهض..انهض يا رجل..انهض يا سيدي من فضلك..و تفضل بالخروج لقد انتهى العرض المسرحي..لمن هذا الصوت الغريب الذي يخاطبني ؟ هذا ليس صوت حديدوان.. من هذا الذي يكلمني؟ فتحت عيني على خشبة مسرح فارغة و قاعة يعمها الظلام و أحد القائمين على سيرها يقف على رأسي و يدعوني للمغادرة. تفقدت حديدوان فلم أجده بجنبي ، عندها أيقنت أنني كنت أحلم ..كل هذا كان مجرد حلم، لكن ما أجمله. وقفت و توجهت نحو الباب عازما على اللحاق بمقر عملي لكني لن أكتب حرفا واحدا عن المسرحية ، بل قررت أن أكتب رسالة حديدوان.