كانت *كلمة السر* التي جمعتني بالسعيد بوطاجين هي *لا بد من الانتقال من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة* لجون ريكاردو، أحد منظري الرواية الجديدة بفرنسا في الستينيات من القرن الماضي، كان لقائي الأول به في مقهى *اللوتس* المحاذي لجامعة الجزائر المركزية في بداية الثمانينيات، وقد كنت أتردد كثيرا على العاصمة للقاء الأستاذ أبو العيد دودو، رحمه الله، الذي كان يشرف على رسالتي لنيل شهادة الماجستير في تخصص الأدب المقارن. وقد كانت تلك الفترة، فعلا، بداية المغامرة الأكاديمية كما تزامنت مع اكتشافي لعالم *النقد الجديد* و*الرواية الجديدة*، مما شكل لدي بداية التمرد على المقاربات التاريخية والاجتماعية المغلقة، والاهتمام بمفهوم الكتابة و النص و اللغة والعلامة و الخطاب و السرديات و البنيوية، وغيرها من المفاهيم التي بدأت آنذاك تقتحم عالم النقد الأدبي باحتشام... وقد أثار انتباهي الذكاء الفكري الذي يميز السعيد بوطاجين، و بدا لي أنه من المعربين القلائل الذين بإمكانهم الخوض في هذه المسائل المستحدثة وبعمق وتحكم كبيرين... هكذا نشأت بيننا علاقة صداقة، أساسها فكري وثقافي وتطورت فيما بعد إلى صداقة حقيقية... و يشرفني و يسرني في صبيحة هذا اليوم أن أقدم لكم أيها الحضور الكرام، كتابه الموسوم *مرايا عاكسة*...وقبل ذلك أود أن أشكر مدير يومية الجمهورية الصديق بوزيان بن عاشور الذي أتاح لنا فرصة هذا اللقاء، كما أشكر الصحافية علياء بوخاري المشرفة على النادي الأدبي و رفيقة دربها الزهرة برياح، كما أشكر جميع الصحافيين و العمال الذين يسهرون ليلا و نهارا لكي تستمر هذه الجريدة في الوجود و الإشعاع. أما بعد، السعيد بوطاجين غني عن التعريف، ومع ذلك لا بد من التذكير ببعض جهوده في الكتابة الإبداعية والنقد، إنه مبدع و ناقد لا يتوقف عن مداعبة القلم و لوحة المفاتيح، بلغة العصر... لا يَكِلُّ وَلا يَمَلُّ... فهو يكتب في القصة و في الرواية و في النقد و يشتغل على ترجمة النصوص الأدبية، كما يسهم في الإعلام الثقافي... له عدة مجموعات قصصية: *وفاة الرجل الميت*، *ما حدث لي غدا*، *اللعنة عليكم جميعا*، *حذائي وجواربي وأنتم*، *تاكسانة، بداية الزعتر، آخر الجنّة*، و *جلالة عبد الجيب*، كما نشر مؤخرا رواية *أعوذ بالله*... هذا بالإضافة إلى ترجمته للعديد من النصوص من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، أذكر منها *الانطباع الأخير* لمالك حداد و رواية *نجمة* لكاتب ياسين...و في جعبته أيضا الكثير من الأعمال الأكاديمية مثل *الاشتغال العاملي* و *السرد و وهم المرجع* و*الترجمة و المصطلح* والعديد من المقالات و الدراسات... نلتقي معه اليوم للتعريف بآخر منشوراته *مرايا عاكسة* الذي صدر مؤخرا عن دار *الوطن اليوم*. و الكتاب من الحجم المتوسط، مائتان و ستة وخمسون هو عدد صفحاته، و هو عبارة عن مجموعة من المقالات و عددها سبعة وأربعون، نشرها، ما بين شهر مارس 2017 و شهر جويلية 2018، على صفحات *النادي الأدبي* الملحق الأسبوعي ليومية الجمهورية. و تتميز هذه المقالات، بأنها تجمع بين المقال الصحفي و الكتابة الأكاديمية، وتتنوع بين القضايا الأدبية و القضايا الفكرية، يتناول فيها سيّر و مواقف الأدباء العالميين ممن التقى بهم أو قرأ لهم من أمثال الشاعر الروسي *يوفتشنكو* والمستشرق الروسي *ديميتري ميكولسكي* الذي لم يستقبله القائمون على ملتقى عبد الحميد بن هدوقة بما يليق بمقامه، و الروائي الألماني *هرمن هيز* الذي يتحدث عن روايته *ذئب البوادي* و عن عمقها الفلسفي. كما يشير في ثنايا كتابه إلى أدباء آخرين سطع نجمهم في عالم الإبداع الأدبي، من أمثال عزيز نسين و ماكسيم غوركي و ماركيز و بورخيس و طاغور، إلى جانب الأديب السوري زكريا تامر، كما يشير إلى الأدباء الجزائريين مثل الطاهر وطار و رشيد بوجدرة و كاتب ياسين و مالك حداد و غيرهم من الأدباء الجدد... و يتناول كذلك القضايا الفكرية و النقدية في العديد من المقالات المنشورة في هذا الكتاب. و يرى في علاقة المثقف بالسياسة و المجتمع أن المثقفين العرب والكتاب و الشعراء و المفكرين * يتحولون، في اغلب الفترات التاريخية، من عباد مضطهدين إلى معبودين يضطهدون كل رأي مغاير، و يضطهدون بعضهم* (ص.24). و يواصل ليشير إلى القناعات الفكرية و السياسية لدى المثقفين، والتي *لا تتعقبها أسئلة و مراجعات، (...) تصبح مقدسة كأي طوطم جديد له مقوماته و حدوده التي لا يجب اقترابها* (ص.25). و في نقده للممارسة السياسة المبنية على الأكاذيب و الأطماع، يدعو إلى تثقيف السياسة و *أخلقة الثقافة و السياسة معا* (ص.31)، لأن المثقف ليس بمنأى عن الأمراض التي تصيب السياسي، و أن المثقف في بلادنا لم يستوعب بشكل عميق الحداثة، وبخاصة الحداثة الأدبية، التي هي في نظره * من ورق شفاف، أما على مستوى الممارسة فلا وجود لها(...)، [وهي] منفصلة عن محيطها الخارجي، ولا تأثير لها في اغلب الأحيان* (ص.36). و في هذا السياق يشيد برواية *الحوات و القصر* للطاهر وطار في طرحها للعلاقة بين السياسة و المجتمع، و التي تشير بشكل رمزي إلى الفجوة القائمة بين الحاكم و المحكوم. و يشدد صاحب الكتاب أن ما جمعه من مقالات فهي ليست سوى *رؤى مفتوحة على التأويلات و القراءات الذاتية* (ص.4)، و لأن * الحقيقة الوحيدة هي السؤال الخالد، أما اليقين فتدمير للممكنات و العقل* (ص.4)... إذا فلا بد*التجاوز المستمر لما نفكر فيه و نكتبه [ لأنه ببساطة] دلالة على أننا مؤهلون لأن نكون أحياء*(ص.5). و يتناول أيضا، في كتابه هذا، قضايا أخرى تتعلق بالجوانب الفنية للنص الأدبي مثل الزمن و السرد و الوصف و اللغة و القراءة و النقد، و غيرها من المسائل التي تؤرقه...و لا أريد أن أطيل في هذا التقديم حتى أفسح المجال للمؤلِف لكي يتكلم عن كتابه، و أترك لكم فرصة الاكتشاف و السؤال، اكتشاف محتوياته من نصوص وأفكار، لكن قبل ذلك أريد أن أقول أن السعيد بوطاجين صادق مع نفسه في كل ما يكتب و كتابتُه تعكس بوضوح شخصيتَه، إذ نجده لا يتساهل في طرحه للقضايا، و إن كان يعتمد اللباقة و الرشاقة و السخرية كثيرا في نصوصه. و هو يتخذ من *الأدب الساخر* لنقد جميع الممارسات و التصورات التي يراها خاطئة و يمكن القول أن سخريته سوداء تتجلى في كتاباته المتنوعة، و بخاصة في قصصه. فهو يسخر من كل الأشياء و من كل المواقف ويسخر حتى من نفسه، و من فرط تواضعه لا يأخذ الأمور بالجدية المتعارف عليها، و بخاصة أن الكثير من المواقف و الأمور و الممارسات تتميز، لدى الكثير من الناس، بالزيف والنفاق و الخداع. و هو لا يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، كما الكثير ممن أصابهم الغرور و تضخمت أناهم، و هذه خاصية لا يمتلكها إلا من تعمقوا في القراءة والبحث و جربوا الحياة بأفراحها و مآسيها، و عاشوها بعنفوان و شغف وعشق كبير، و السعيد بوطاجين واحد من هؤلاء....