إن كتاب " مختارات من المسرح الجزائري الجديد "هو في الحقيقة كتاب كبير الحجم حيث تنيف صفحاته عن الأربعمائة ، في حين أن المدة التي منحتها لنا إدارة المعهد العربي العالي للترجمة لتقديم الترجمة قصيرة جدا ، و ذلك لارتباط عملية طباعة الكتاب و صدوره بنشاطات السنة الثقافية العربية في الجزائر، الأمر الذي جعلني أعتكف في بيتي متفرغا بصفة كلية لإنجاز هذا العمل في آجاله المحددة التي التزمت بها . كانت أول خطوة فرضت علينا تقوم على أن يقدم المترجم لإدارة معهد الترجمة عشرين صفحة مترجمة من الكتاب الذي كلف به ، و ذلك كي يتسنى للخبراء المشرفين على العملية اختبار قدرات المترجم ، حتى إذا ما تم الاطمئنان على ذلك أعطيت للمترجم الإشارة بمواصلة العمل ، في حين يتم سحب العمل منه إذا كان الأمر عكس ذلك. لقد مرت علي التجربة بسلام ، و هو ما جعلني أزداد إحساسا بوطأة الثقة التي منحت لي من قبل إدارة المعهد . كانت رحلتي في ترجمة تلك المسرحيات العشر شاقة جدا ، و لكنها ممتعة في الوقت نفسه اكتشفت من خلالها عظمة أدبنا الجزائري المهاجر ، وإذا كانت تجربة الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية ،هي تجربة معروفة ولها أسبابها التاريخية والحضارية الموضوعية ،فإن اجتماع عشرة كتاب مسرحيين في مصنف واحد له خصوصياته الشكلية و المضمونية ، يشكل تجربة أدبية متميزة تستحق الملاحظة والمساءلة .وإن رهان هذه المختارات المسرحية على صفة ( المسرح الجزائري الجديد ) من شأنها أن تضع المهتمين والدارسين بمواجهة مشهد المسرح الجزائري : قديمه وجديده ؟ ماضيه وحاضره ؟ واقعة وآفاقه ؟ راهنه ورهانه ؟ إن خصوصية هذه المختارات لا تكمن فقط في كون كتابها من أبناء جيل واحد ، هو في العموم جيل الاستقلال من الكتاب الجزائريين الذين هاجروا إلى أوروبا وحملوا لواء الكتابة المسرحية باللغة الفرنسية ،معبرين عن راهن الواقع الجزائري في قوة وجرأة وشجاعة ،قد لا نجدها عند الكثيرين من الكتاب الآخرين .بحيث إن هذه المختارات المسرحية تتجاوز فعل المرآة في تصوير انحرافات الدولة والوطنية ،إلى تعرية تلك الانحرافات و فضح أسبابها و آثارها المأساوية المدمرة .ومن الواضح أن كتاب هذه المسرحيات بحكم وجودهم في المهاجر الأوروبية قد امتلكوا فضاء الحرية في ممارسة سلطة القول والخطاب ،وامتلكوا أكثر من ذلك صفاء الرؤية ، فقارئ هذه المسرحيات يشعر أن أصحابها يمتلكون الكثير من سراديب الحقيقة التي قد تكون مجهولة لدى من يعيش داخل الوطن . لقد حاولت التعرف على سيرة حياة هؤلاء الكتاب لإدراجها في خاتمة الكتاب حتى يتعرف القارئ الكريم عليهم أكثر ، لكنه و على الرغم من سعيي الحثيث إلى تلك الغاية ، فإن رجائي قد خاب في عديد المرات ، فماعدا كاتب أو اثنين هما " عيسى خلادي " الأديب المعروف ، و " حمة ملياني " المخرج و الكاتب المشهور ، فإن باقي الأسماء تظل مجهولة لدى الكثير منا ، و ما هو متوفر من معلومات عنها عبر الشبكة العنكبوتية لا يعدو أن يكون رصدا للأنشطة المسرحية لهؤلاء الأعلام في المهاجر الأوروبية ، أو في الولاياتالمتحدةالأمريكية على غرار ما نلحظه في سيرة حياة " علاق بايلي تومي " أستاذ الآداب الفرنكفونية بجامعة " ويسكونسون " . و الحقيقة أن هؤلاء الكتاب الجزائريين ، وعلى الرغم من وجودهم في ديار الهجرة بعيدا عن الوطن الأم ، إلا أن كتاباتهم مثلما نراها مجسدة في هذه المختارات لا تخون الواقع الجزائري ، ولا تدير ظهرها لما يحدث في حياتنا ،ولا تهرب نحو الابتذال والإضحاك المجاني ،بل إنها على العكس من ذلك تقيم غرفة عمليات مجهزة وتقوم بإدخال الواقع الجزائري إليها لتعالج أمراضه فكأننا بهؤلاء الكتاب جراحون ماهرون لا يتوانون في استخدام المشرط لإزالة الأورام وتنظيف الجراح ، إنها بحق إبداعات جيل من الكتاب اجتمعت بين جوانحهم إرادة الانعتاق من جبن المواجهة ،وقوة الحب والوفاء للوطن الأم ، إنهم يستظلون بروح كاتب ياسين ذلك الكبلوتي الأرعن المؤمن دوما بالثورة المستمرة . ففي هذه المسرحيات نفس نضالي سياسي مقاوم ، فبالرغم من تنوع كيفيات الطرح والتعبير بين واقعية نقدية ورمزية شفافة ،فإن هذه المختارات المسرحية تنتصر للفكرة أكثر من انتصارها للقالب ،أي أنها تقدم المضمون عن الشكل ذلك أن غايتها هي التحريض على مقاومة الشر في الواقع وليس الإمتاع الفني العاري من أية رسالة . وقد يبادر بعض النقاد إلى تصنيف هذه المختارات ضمن ما يسمى بالأدب الاستعجالي .ولكن دون الوقوف كثيرا عند حقيقة التسمية فإننا نؤكد على مشروعيتها ،فإذا كان دأب هذه المسرحيات أنها سجلت الراهن الجزائري فإن ذلك يكفيها فخرا ، إذ ما أحوجنا إلى المرآة لنرى أنفسنا بوضوح ،ألم يقل لوجي بيرانديللو : "حين يحيا الإنسان فإنه يحيا وهو لا يرى نفسه ،حسنا ضع أمامه مرآة ،واجعله يبصر نفسه وهو يحيا .إنه إما أن يندهش لمظهره ،أو يحول عينيه بعيدا لكي لا يرى نفسه ، يشمئز ويبصق على صورته ،أو يطبق قبضته لكي يكسرها .وباختصار ،تتصاعد أزمة ،وتلك الأزمة هي مسرحي" إن القارئ لهذه المختارات المسرحية ،يشعر لا محالة بقدرتها على تشخيص المأساة الوطنية ورصد مختلف تجلياتها وأبعادها ،وذلك بعيدا عن أية مزايدات سياسوية ،ودون اتخاذها سجلا تجاريا لتحقيق مآرب شخصية أو الانتصار لطروحات ومواقف حزبية مسبقة ، فما تقوله هذه المسرحيات هو أقرب إلى الشهادة عن حقيقة ما يعرف بعشرية الدماء والدموع ،فمن خلال صراع الشخصيات وحركتها في فضاء الحبكة المسرحية ،فإنها تعرض الأخطاء والشرور وتصور مختلف تجليات المأساة في لحظة شردت فيها العقول عن الصواب ،والقلوب عن الحب مما أدى إلى غياب الحق والخير والجمال من الفضاء . إن هذه المختارات المسرحية إذ تعرض عشرية الدماء والدموع ،فإنما تفعل ذلك لتطالب بعالم أكثر عقلا وحبا وعدلا ،عالم خال من أية (حقرة ) هذه الكلمة الجزائرية الشعبية البسيطة والتي تلخص في أربعة حروف ربانية علل المأساة وتداعياتها وتجلياتها أيضا ، فرهان هذه النصوص هو تجسيد طموح (سلامة) المرأة الطيبة التي كابدت المأساة في أعنف صورها فراحت تستجدي الكاتب ( سلام ) في ختام مسرحية (جنة الآمال المزيفة) لعيسى خلادي قائلة له : " في نظري فإن الذين هم على خطأ ، أو الذين هم على صواب ، لا يشكلون أية أهمية .أنت من يدين ومن ينقذ .لكن الأطفال ، بماذا سيفكر الأطفال ؟ ماذا سيصبحون ؟ سيكونون يوما في حاجة إلى كتابك من أجل معرفة وتقرير ما الذي يجب أن يكونوا عليه .إنهم بين يديك .لا أحد لديه سلطة حقيقية أخرى عليهم.لقد أغريتني من أجل هذه الأسباب و لأجل أخرى أيضا .أمسكني من يدي واصطحبني أنا مع أبنائي ،والذين هم أبناؤك أيضا ، نحو وجود أقل شقاء .أنا لك ." ولذلك فإن هذه المختارات المسرحية في سعيها نحو الوجود الأقل شقاء ، فإنها بذلك تنتصر للبسطاء من الناس ،وتعطيهم الحق في التعبير عن وجودهم وقناعتهم ومشاعرهم وهي بالتالي تستجيب لخصوصية فن المسرح في كونه فن الناس والساحات ، وفي كونه معرضا للحياة تتحقق فيها المواجهة العلنية بين الإنسان و الإنسان، الإنسان الممثل والإنسان المتفرج ، ومن خلال هذه المواجهة يستطيع المتلقي أن يتعرف على نفسه وأن يصنع وعيه ،ذلك أن هذه المختارات لا تقدم وعيا سياسيا مجانيا ولكنها تنصب مرآة للواقع تعرضه في صفاء وصدق ، ثم تمنح مطلق الحرية للمتلقي لبناء وعيه بنفسه ،وذلك حتى يتسنى له الوعي بذاته وبالعالم من حوله فيتكيف مع واقعه ويتصالح مع ذاته ومجتمعه فيدرك التوازن الموجود بين الحرية والمسؤولية . وصفوة القول فإن تقديم هذه المختارات المسرحية وترجمتها من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية يشكل مكسبا ثريا لثقافتنا الوطنية الجزائرية المتعددة في أشكالها والمتنوعة في أدواتها التعبيرية ، إذ ما أحوج مثقفينا بتنوع منابرهم اللغوية إلى التعارف والتآلف وإطلاع الواحد منهم على ما يكتبه الآخر تمتينا لعرى التواصل ،وما أحوج أدبنا الوطني الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية إلى التحرر من غربة اللغة الأجنبية ليحلق في سماء اللغة العربية ويتواصل مع مختلف الكتابات العربية ويعلن عن حضوره في رصيد الأدب العربي عامة . وبعد فإن الترجمة عمل شاق (ما يلقاها إلا الصابرون) ،وهي أي الترجمة لا تكون إلا دقيقة أو جميلة ،ولكنني في ترجمتي لهذه المسرحيات قد صارعت الكلمات كما صارعت السياق ، وصارعت المبنى كما صارعت المعنى واجتهدت في أن تكون ترجمتي لهذه المختارات دقيقة وجميلة في الوقت نفسه وهو رهان لا أدعي امتلاكه و تحقيقه ، ولكنني أزعم أنني قد سعيت إليه السعي الحثيث والصادق و ما توفيقي إلا بالله .