لا يزال الحوار منذ الأزل حتى قبل أن يعمر الإنسان هاته الارض أنجع الوسائل للفصل في الجدال العقيم وزادا فكريا وأدبيا. يمكن للمحاور أن يستفيد منه في ردوده على المعارضين، فالحوار ذكر في القرآن الكريم والسنة النبوية بمنهجه وآدابه ومقاصده ليتضح جليا أن المنهج القرآني صالح لكل زمان ومكان وقادر على مواجهة التحديات والأزمات إذا توافرت له مثل هذه العقول التي تمتلك الأدوات وليبرهن للأمم أن الحوار ضرورة شرعية قبل أن يكون ضرورة مجتمعية أو مدنية أو سياسية وأضحى الحوار معه وسيلة للتواصل مخافة سوء الفهم أو النزاع التي قد تؤدي إلى الحروب وتفتك بالامم وبين هذا وذاك لنا في القرآن الكريم خير الأدلة عن فضائل الحوار فكانت أول محاورة وقعت في القرآن الكريم بين الله سبحانه وتعالى والملائكة حول خلق آدم يقول تعالى في سورة البقرة: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ». ثم يأتي أول حوار وقع على الأرض الذي كان بين قابيل وهابيل وأول فساد يقع فيها هو جريمة القتل تصديقاً لنبوءة الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ). أين كان الدافع من تلك الجريمة الحسد والظلم والقتل لتتوالى أمثلة الحوار بين القبائل التي سبقت الاسلام في قصص الانبياء الى حوار موسى مع فرعون وصولا إلى قصص النبي مع ربه حين قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ». أردنا من خلال هاته الآيات التأكيد على فضائل الحوار في الحفاظ على حياة الأمم وامنها واستقرارها من خلال مفهوم الحوار الذي هو نقاش بناء لتبادل الخبرات أو الوصول إلى أفكار جديدة أو تحسين فكرة قديمة - حسب تفسير المصطلح. لذلك أردنا من التنبيه لذكر مصطلح الحوار في القرآن الكريم اسقاطا للأحداث كون الغاية منه تصلح لكل زمان ومكان. ومنه ربطنا ماهية الحوار والغرض منه وأهميته في الأزمة التي تمر بها بلادنا اليوم، سيما بعد سقوط أسماء العصابة متتالية بفضل حوار السلطة مع ممثلي الحراك ومرافقة مؤسسة الجيش ووقوفها في وجه من يريدون شرا ببلادنا وجرها ثانية الى مستنقع الدم. الاختلاف رحمة معلوم ألا حوار بدون اختلاف فقد برهن الجزائريون أن بإمكانهم التحاور رغم الاختلاف في وجهات النظر وجسد معنى ذلك الاختلاف عندما خرج الجزائريون جماعات رافضين للعهدة الخامسة والإستبداد في الحكم ذات 22 فيفري لأول مرة بعدما كانت المسيرات ممنوعة. خرجوا من أجل المطالبة بالتغيير الجذري ومحاربة الفساد, وسيلتهم في ذلك سلميتهم , التي ابهروا بها العالم وأبانوا عن وعي وحزم منقطع النظير وضربوا بذلك الأمثلة في التآخي , مفندين ادعاءات الغير بالهمجية والفوضى ليصبحوا بعدها أشهر شعب خرج للمطالبة بحقوقه سلميا. جمعة.. تعقبها جمعات والهبة الجزائرية السلمية تلقى التفاتات من قبل شخصيات عرفت بالنضال في الوسط العربي, ليجد الحراك وحيا لإلهام النشطاء السياسيين المغاربة والعرب وحتى الأوروبيين, الشعراء والمغنيين الذين حيوا الشعب الجزائري على شهامته في كبح قوى الظلم والفساد بطريقة سلمية أسقطوا عبرها العهدة الخامسة واستقالة بوتفليقة، فقال فيه الزفزافي من داخل سجنه «أحييك أيها الشعب الجزائري العظيم، على تحقيقك لأولى مطالبك بإسقاطك للعهدة الخامسة، وبقطعك للطريق على لصوص البلاد، وكيف لا وأنت بلحمتك صنعت الأمجاد في الماضي، وها أنت اليوم تصنعها من جديد، وأعطيت كما إخوانك، وأخواتك في الريف دروسا للعالم بأسره في النضال السلمي، الحضاري» وحتى القياديون السياسيون». ودعا مفتي ليبيا، الصادق الغرياني، شعب بلاده إلى الخروج للتظاهر في الشارع اقتداء بانتفاضة الشعب الجزائري للتعبير عن رفض العمليات العسكرية ضده. في زخم الحراك ظهرت اصوات ناعقة تحاول عبثا التفرقة بين الشعب وجيشه في محاولة يائسة لبعث جذور الدولة العميقة من جذور المفسدين كآخر ورقة تلعب بها حين اشتد عود الحراك واصبح يفرق بين الصالح والطالح. هنا تظاهر الجزائريون في إحدى الجامعات، مؤكدين وحدة الجزائر وشعبها، مطالبين بالتغيير(...). وحذر الجيش من فخ الفراغ الدستوري حينها ومن جعل مسألة مرافقة الجيش للحراك لتكون مطية للتدخل الأجنبي، بداعي تدخل الجيش في السياسة والتأجيج لحرب داخل أبناء الوطن الواحد. فخرج الحراكيون حينها في الجمعة ال 18 حاملين شعارات «الجيش.. الشعب.. خاوة خاوة» و»الجزائر وحدة واحدة»، و»قوتنا في وحدتنا»، «ولا للجهويات، كلنا خاوة»، و»قبائلي وعربي إخوة..» في العاصمة وولايات عدة، وهران وجيجل والميلة وقسنطينة والجلفة وغيرها لتكون صفعة أخرى لدعاة التفرقة والسجال العقيم. في خضم تسارع الأحداث وتوالي الجمعات المطالبة بالتغيير توصل السلطة والحراكيون الى نقطة تفاهم مبدأها الحوار لنبذ التخاصم، والمصالحة بين أبناء الوطن الواحد بمرافقة الجيش خاصة وأن المرحلة الانتقالية أضحت ضرورة لا مفر منها، من أجل ترتيب البيت والذهاب نحو الانتخابات الرئاسية بكل شفافية فكانت مؤسسة الجيش راعي الحوار الاول الجامع لكل مكونات المجتمع مع اشتراط تجاوز السجالات الأيديولوجية والهوياتية، أو الإستغلال الحزبي والنقابي، والتفاوض بتنازلات مع تغليب المصلحة العليا للبلاد. بين هذا وذاك ومع دعوة الفريق «قايد صالح» للحوار تجاوبت أحزاب سياسية ومكونات المجتمع ومكونات لطرح مبادرات لحل الأزمة التي تشهدها بلادنا وكل حزب دلا بدلوه لإنجاح المعادلة التي تتعلق بمصير أمة فعرضت بعض أحزاب المعارضة استقالة الرئيس الانتقالي للبلادد وحل الحكومة والمجلس الدستوري. أما أخرى فدعت الى تشكيل «هيئة عليا انتقالية» تتولى قيادة البلاد. فيم نادت أخرى بانتخابات رئاسية قبل أكتوبر، وصياغة دستور جديد للبلاد في مدة أقصاها شهران، عن طريق الاستفتاء الشعبي. وبالموازاة مع ذلك اتسعت حملة مكافحة الفساد التي باشرتها السلطة لتعصف كل يوم بأسماء جديدة مع استمرار الحراك ووقوف الجيش إلى جانبه، بزغت امال انفراج الأزمة بعد تشبث كل جبهة بمطالبها وتشتت المعارضة لتولد هيأة الحوار والوساطة بقيادة «كريم يونس» التي قامت بجولات مراطونية كلها تصب في إطار جمع الشمل والدفع بالمتخاصمين إلى طاولة الحوار. ونجحت الهيأة في ذلك بل وانشأت لجنة للعقلاء، تجمع شخصيات وخبراء، واقدمت بعدها على تنصيب لجان عمل، وتحديد مهامها وأعضائها، مبدؤها في ذلك تثمن كل مبادرات الحوار وكل منصات ومقترحات الخروج من الأزمة تعدت إلى تجنيد الجالية الجزائرية في الخارج واعادة الاعتبار الى دورها الفعال في الخروج من الازمة. كما تضمنت بعض اللجان الدراسة والتحاليل المكلفة بمراجعة قانون الانتخابات كانت الغاية منها استرجاع الثقة في العملية الانتخابية. وبما أن الوقت لم يكن في صالحنا تم التخلي عن تنظيم ندوة وطنية، لتستبدل بإعداد قانون معدل للانتخابات واخر خاص بانشاء السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات برئاسة «محمد شرفي». كان من ثمار الحوار الجاد ايضا إنشاء السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات التي تعد سابقة في تاريخ الجزائر بإسناد مجريات العملية الانتخابية كلها لهيأة وطنية مستقلة بعيدا عن الإدارة لتتولى مهامها وفق إطار قانوني خاص بها حولها إلى مؤسسة مستقلة ماليا وإداريا، لتحل مكان كل من اللجنة الوطنية القضائية للإشراف على الانتخابات واللجنة الوطنية السياسية لمراقبة الانتخابات، والهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات. لتتحقق معها السيادة الشعبية في تقرير مصيرها بانتخاب رئيسها بكل حرية وديمقراطية رغم محاولة بعض الايادي الأجنبية ثالثا ورابعا اختراق المسيرات الشعبية الحرة، فبدل أن يدافع بعض البرلمانيون الأوروبيون والفرنسيون عن شعوبهم ومطالب السترات الصفراء التي كادت ان تحول فرنسا - من تدعي الديمقراطية الى خراب سافر هؤلاء ليزرعوا الفتنة لكن لا الشعب ولا الجيش يأبه لهم. والشعب سيختار رئيسه رغم أنوف الخونة أطياف الأمة تتوحد اجمع حقوقيون أن مستقبل الجزائر بين أيدي السلطة المستقلة للانتخابات، واعتبر آخرون الإطار القانوني المشكل لها بالسليم. فالصندوق هو الفيصل فيها وليس العلب السوداء ونظام الكوطات أو التوزيع العشوائي للأصوات. وفي الأخير كان الحوار بالفعل الجامع لأطياف الأمة الجزائرية، تصدح به حناجر الجزائريين في رسالة للناقمين عليها والحاسدين على نعمة الأمن والاستقرار تحت حمى جيشها الأبي «سنصوت بقوة، وسنختار رئيسنا في 12 ديسمبر المقبل وستروي الأجيال «حكاية شعب دافع عن الحرية».