حين تفيض المشاعر حزنا، فحتما ستضيق الكلمة بما رحبت، لكنّها تخرج صادقة نقيّة لا شيّة فيها، وما كذّب الفؤاد ما رأى، رأى المدينة تلتحف ثوب الحزن وهي توّدع شاعرها الهمام إلى مثواه الأخير. في جنازة مهيبة شيّع المئات من أبناء المنطقة ظهيرة يوم السبت 30 نوفمبر 2019 وإلى الأبد ذخر المدينة وأحد أعمدتها في الشعر الملحون، الشّاعر تواتي بن عبد القادر حيث وافته المنيّة وانتقل إلى جوار ربّه وقد جاوز عتبة الثّمانين من عمره. الحاج تواتي بن عبد القادر كما يحلو لأهالي المنطقة مناداته وليد مدينة عين تادلس، نشأ في عائلة محافظة حرصت على تعليمه، فحفظ القرآن في الكتاتيب ولمّا استقام عوده زاد علمه وتشبّع بالشخصيّة العربيّة الإسلاميّة رغم محاولات المستعمر الفرنسيّ طمس معالم الهويّة والدين، اكتشف ميوله للشّعر مبكّرا من خلال ما كان يتناهى إلى مسامعه عن طريق الأغاني البدويّة وحلقات الأسواق الشعبيّة الرائجة آنذاك وما يتداوله الحفظة للشّعر خاصّة قصائد فحول الشّعراء . تجلّت ملكة الشعر وذائقته الرفيعة وتلك الشِّعريّة التي قوّضت مذهب الإبداع فيه فجعلته شاعرا مرموقا ذاع صيته في رحاب الكلمة الشعبيّة وقصائد الملحون في كلّ ربوع وطننا الغالي، حيث أضحى "عليه شآبيب الرحمة" واحدا من أهمّ فحول الشّعراء وركيزة من ركائزها في هذا اللون من الشّعر يعرفه القاصي والدّاني ويكفي ذكر رائعة " هات يدك ليدي يا صاحب المحبّة " . يُعتبر الشاعر تواتي بن عبد القادر من الرعيل الأوّل الذي نافح عن القصيدة الشعبيّة حين كانت الملتقيّات أو المهرجانات تعدّ على أصابع اليد، حيث كان يتجشّم عناء السفر وبوسائله الخاصّة إلى الأقاصي من أجل أن يُشارك بنصّه الذي كان يحمل أماله وآلامه وقضايا مجتمعه ووطنه كأي شاعر يحمل رسالة إنسانيّة نبيلة المقصد جميلة الشكل، وهذا ما جُبل عليه الشعراء سَلفا وخلفا. نعم استطاع أن ينقش اسمه في محفل الشّعر وبمحبّة مفرطة قرّبته من جلّ الشعراء في فترة شبابه خاصّة من أبناء المنطقة وغيرهم، ضف إلى ذلك شيوخ الأغنيّة البدويّة فقد كان رفيق درب الشيخ الجيلالي عين تادلس لسنوات طوال. ولأنّ الشعر يترجم مشاعر صاحبه ويُظهر خصاله ويفضح توجّهه الحياتيّ، فقد عكس حقيقة مآثر الرجل، فكان شهما كريما إذا أعطى، ناصحا إذا وجّه، عارفا إذا تحدّث، متواضعا غير عزوف ولا عيوف، يُقبل ولا يدبر، بيته للضيف مفتوح، وصدره لمحدّثه مشروح. من الصعب أن يطاوعك اليراع وتنحني الكلمة بارّة في هكذا مواضع، والرثاء تكفيه المشاعر الصادقة، فالدّمع أصدق أنباء من الخُطب، قد يكون هذا من حيّل تعيس تفرّ منه الكلمات في حقّ شيخه ومن علّمه وأوصاه بالشعر خيرا....