الراي حركة فنية و نمط غنائي يعود إلى بدايات القرن العشرين مثلها كل من الخالدي وحمادة و بوطالب بن يخلف و " الريميتي " و " حكوم" و حطاب السيقلي و بوطيبة السعدي في فترات متعاقبة، وقد تردد صداه في الأسواق الشعبية و الساحات، و خاضت موضوعاته في بعض الطابوهات التي لا يجرؤ الناس على الخوض فيها لموانع دينية و أخلاقية . و المجتمع الذي يعيش تضييقا على الحريات تتنازعه نوازع مختلفة فيجنح البعض إلى الانزواء و الانغلاق على النفس و الزهد في الدنيا أملا في تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه فيها يوم الرحيل عنها ،و فئة أخرى لا وازع يمنعها من الانغماس في اللهو و الملذات وهذا التحرر المطلق من كل الممنوعات و المحرمات ما كان ليحصل لولا تشجيع هذه الفئة أو السكوت عن تجاوزاتها في حق مجتمع محافظ له قيمة و ضوابطه التي تسير حياته، و مادام موضوعنا هو ما علاقة الرأي بالأغنية الوهرانية ؟ أرى بأن الراي هو الابن الشرعي للأغنية الوهرانية، خرج من رحمها و رضع من حليبها، لكنه ككل الأبناء تقريبا، تحرر و استقل بذاته و بنى لنفسه حياته الخالصة ، و بعد أن كان لصيقا بالموسيقى الوهرانية وأقصد بهذا موسيقى الحواضر المحاذية لوهران، أيضا بدليل انتماءات جمع من الملحنين المطربين إلى بلعباس و غليزان و سعيدة و مستغانم و معسكر ،فضلا عن المدينة القطب مركز الالتقاء و عرض الشعراء بضاعتهم على شاكلة سوق عكاظ في الجاهلية تحرر استقل بذاته مع شيء من التأثر بالموسيقى الأصل، لينحرف رويدا رويدا، لأنه امتزج بألوان و طبوع موسيقية غربية متعددة ، اختار لنفسه لغته الخاصة به، واحتضنته دور اللهو و المراقص، لأن الناس لفظته في البداية و اعتبرته مدمرا للأخلاق مشوها لسمعة الجزائري المعروف بمحافظته و تمسكه بالقيم الفاضلة. و إذا كان قد تعرض للتضييق و الإقصاء من وسائل الإعلام المسموعة و المرئية في مرحلة من المراحل، فقد فتحت له بعض وسائل الإعلام الفرنسية أبوابها مثل قناتي M6 و Canel+ بغض النظر عن النوايا و الخلفيات من وراء ذلك لتحدو حدوها وسائل إعلامنا بصورة محتشمة في البداية ، و ينتهي الأمر إلى الانفتاح على هذا اللون دون حسيب أو رقيب فشاع وذاع صيته في العالم على يد حاج إبراهيم خالد و مامي و حسني و رشيد طه و غيرهم، وإنصافا لهذا الفن ،فقد بدأ يتخلى عن الكلمات النابية المنحطة وعيا من أصحابه بأثرها السلبي على الذوق العام، و إذا كان الخلط بين العربية و الفرنسية قد أصبح أمرا شائعا، فإننا نهيب بكتاب الكلمات أن يتراجعوا عن هذا التوجه، لأنه لن يؤثر في نوعية الإنتاج و كان حريا بي أن أستهل هذا العنصر بتعريف مصطلح الراي عند الأولين ، فالرأي في مفهومهم ما يصدر عن العقل من رأي و توجيه يسترشد به الإنسان في حمايته، و قد يتعرض للإخفاق و خيبة الأمل، فيصب لومه و عتابه على " رأيه " و يحمله أسباب فشله و انتكاسته في الحياة، وترديد ترنيمة " يا رايي" إنما هي صرخة استغاثة من إنسان قهرته الأيام و حطمت آماله و خانته حظوظ النجاح و العيش الكريم بعدما عاشت الأغنية الوهرانية أزهى أيامها قبل الاستقلال و بعده بقليل إلى حدود الثمانينات – و يكفي الرجوع إلى أرشيف الإذاعة للوقوف على كثافة الإنتاج و نوعيته آنذاك - اصطدمت فيما بعد بكثير من المعوقات التي عرقلت حركيتها و نشاطها، و هي معوقات مقصودة متعمّدة في غالب الأحيان، و أذكر منها على سبيل المثال: فصل الجوق الموسيقي و توقيف عناصره من الإذاعة الجهوية و دفع الموسيقيين إلى البطالة و الميزيريا – و بهذا التصرف اللامسؤول الذي استند فيه إلى قلة الموارد المالية و هو مبرر غير بريء، فقدت الأغنية عاملا من أهم عوامل نهضتها واستمرارها إذ أغلقت أبواب الدعم و التسجيل في وجه الملحنين و المطربين. السياسة الإقصائية تجاه هذا اللون الغنائي وعدم الترويج له إعلاميا تهميش المنتسبين إليه بانعدام الأنشطة الفنية و الثقافية. موت أعمدته و رواده الواحد بعد الآخر، و انزواء البقية بممارستهم لأعمال أخرى لضمان قوت يومهم، و هي أعمال وضيعة لا تليق بهم و لا تحفظ لهم شرفهم، فبعد أن كانوا من نخبة المجتمع، أصبحوا من عامته و سوقته لا يأبه بهم أحد. الحاجة الملحة و الدائمة إلى سياسة ثقافية رشيدة و واعية تحدد الأهداف و ترسم السبل لتحقيقها سعيا لبناء الإنسان الجزائري بناء يحصنه من أي استلاب فكري و يربطه بتراثه الوطني، و الابتعاد عن الفكرة الرائجة عند بعض المسؤولين و الذين يعتبرون الثقافة ترفا فكريا و كفى، ينتقصون من قيمتها بتقليص ميزانيتها و إسناد أمر تسييرها إلى من يفتقرون إلى الكفاءة و فرض الوجود على الهيئات جميعها ..يتبع. هناك بصيص من الأمل في رؤية الأغنية الوهرانية تستعيد مكانتها في المشهد الثقافي الوطني، لأن تأثيرها و انتشارها لم يكن محصورا في وهران و نواحيها فقط، و إنما امتد إلى ربوع الوطن و إلى خارجه، و ما يدعم تفاؤلي هو مهرجانها السنوي الذي تكتشف فيه مواهب يؤمل في حملها المشعل مستقبلا ، إلى جانب استقطاب مطربين رايويين استمالتهم نحو هذا اللون، و لهم من الشهرة ما يمكنهم من الترويج له وطنيا و عالميا و يكفي الإشارة إلى خالد أو مامي، وقد لقي عملهما استحسانا في مغرب الوطن العربي و مشرقه، و راحت بعض الأعمال الوهرانية تعاد من لدن مطربين مشهورين، ك " وهرن وهرن " لأسماء المنور" و لكن الدفع الحقيقي لإعادة الاعتبار للأغنية الوهرانية، لن يتأتى إلا بالشروط التالية: إعادة توظيف الجوق الموسيقي بمحطة وهران و جمع شتات عناصره، ليتسنى لكتاب الكلمات و ما اقلهم و للمطربين و الملحنين تسجيل إنتاجاتهم بدون تكلفة باهضة كما هو عليه الوضع حاليا. كثير من الأعمال الجاهزة عند بلاوي الهواري متروكة للضياع شأنه شأن رحال الزبير و قويدر بركان و باي بكاي و عبد الله غربال و توفيق بوملاح .... الخ. ضرورة اهتمام الولاة الولائية و البلدية و الهيئات المختلفة بإقامة الحفلات باستمرار تشجيعا لهذا اللون، حماية لهويتنا و انتمائنا. إقامة مسابقات تحفيزية للشباب خاصة ، سواء أكانوا ملحنين أو مطربين أو شعراء. نفض الغبار عن الارشيف الذي تعرض جزء كبير منه إلى التلف و السرقة و العبث، و تلك جريمة اقتصادية و أخلاقية و ثقافية في حق الفن و المجتمع. و المحاولات التي تمت مؤخرا لحمايته و إعادة بعثه غير كافية، لأنها من جهة لم تستثمر ، و من جهة أخرى لم يستعن فيها بعارفين ما زالوا على قيد الحياة و لهم من الخبرة و التجربة ما يجب استثماره و الاستعانة به .