عشيةَ حلول الشهر الفَضيل، قَضّيْتُ الظّهِيرة بعِيادة شِيلْيَا مُرابطًا أنتظرُ خروج زوجتي بسلام من قاعة العمليات ، و لم تكن هذه العملية - كَما حَدَسْتُ - بالصعبة أوِ الخطيرة مُقارنةً بالعمليات الثلاث التي خضعتْ لها في خلال السّنتين الفارطتين ، لذلك لم أكن قلقا ، و م أخبر لا الأهل ولا الزملاء إلاّ بعد أن تمّ الأمر ؛ ولم أجد حِينها، وأنا تَحت وطْأة الانتظار،سوى شاشة هاتفي مُؤنسا، فَرُحْت أسْتأنس بمشاهدة أحد العروض المسرحية على اليُوتوب .. و من قبيل المصادفة ،تذكّرت، وأنا مُندمج ، سؤالا بسيطا يتعلّق بالتلقّي ، سَبق و أن سَألَنِيهِ أحد زملائي عبرَ الهاتف منذ أسبوع ، عن الفائدة المرجُوّة من حملة متابعة عروض مسرحية سابقة عبرَ اليُوتوب ..، و هلْ سيكون تلقّينا لها بنفس الطعم و الحرارة مِثلما تلقيْناها قَبلاً داخل البِنايات المسرحية ؟.. في الحقيقة ،لم أجب زميلي يومها عن سؤاله، لأنّني لم أعاين منذ فترة مسرحيات عبرَ اليُوتوب،في حين أنّني شاهدت مسرحيات عديدة على شاشة التلفزيون ، و كانت أخرها مسرحية " العَيْطة" .. أعتقد أنّ تساؤل زميلي كان يرمي أساسًا إلى أنّ مثل هذه العروض لا يتمّ تلقّيها بشكل كامل إلاّ عن طريق المشاهدة المباشرة، حيث نتمكن كمُتلقّين من التّفاعل الحيّ مع الممثلين و المخرجين ، و مع كلّ فريق العمل لهذا العرض أوْ ذاك .. لذلك ، فقد وجدت التّساؤل مشروعًا و موضوعيا ، إذا ما احْتكمنا بالطبع إلى منطق التلقي المسرحي، و استراتيجيته لأجل تشكيل فكرة أو انطباع عن العرض المسرحي بعد مشاهدةٍ مباشِرةٍ ، يتلمّس المتلقي أثناءها و يستقبل فُيوضًا من الأحاسيس و المشاعر و الأفكار التي يتدفّق بها النّص على ألسنة الممثلين، وِفق خطّة إخراجية صمّمها المخرج المسرحي، و جَيش من العاملين في مَناحي فنية و تقنية داعمة لهذه الرؤية .. لستُ هاهُنا بأيّ حال لِأنْتقص من حجم جهود الأفراد و المجموعات و المؤسسات في هذه الظروف ، ولا لِأسْتصغر أو أسْتهين بالمبادرات التي تسعى لإبقاء صوت المسرح صدّاحًا في زمن الكورونا ، حيث أصبح التّجمهر و الاحتفال الجماعي في المسارح و دور العرض ممنوعا بحكم الوعي المدني للفنانين ، قبلَ أن يكون الامتناع اعتبارًا للأمْريات الصحّية و الإدارية المُلزمة بذلك .. و عليه،فَإنّه لَأكيدٌ بأنّ تلقّي مختلف أوْجه النشاط المسرحي عموما والعروض المسرحية خصوصا عبرَ عديد الوسائط، لن يُشْبع نَهَم المُتلقين، الذين اعتادوا على تحمّل مَشَاق ّالحجّ إلى مَحاريب الفن كلّ مساء لمُعانقة جماليات أبي الفنون في تجلياتها بشكل حيّ و مباشر ، ولكن ما عَسَاهم يفعلون،وقد كَبَحَ الواجب وضروراته جِماح عواطفهم وغِواياتهم ، حفاظا على حياتهم ، وتأمينا لِحَيواتِ غيرهم من سَطوة وباء فتّاك لا يعترف بالعواطف الجيّاشة ،بل إنه يتربّص بنا لَيتسلّل إلينا، ويَسْتلّ سيفه ليَطْعننا في ذِروة لحظات الرّقة والضعف البشري :حين نتصافح أو نتعانق أو نتحاور عن كَثب ، تعبيرا عن أفكارنا وإنسانيتنا و شَغفنا بمحبّة و مجاملة بعضنا البعض .. زمن التواصل والتقابل ؟ لقدْ قِيل و يُقال إنّه زمن الرّتابة و الجمود و التفكّك و التباعد الاجتماعي،ولكن في الوقت نفسه، أحْسَبه زمن التواصل والتقابل والحبّ عن بُعد ( أمين معلوف ) ،إذا ما تمّ استغلال و تسخير كل ما يتوافر لدينا من مساحات الوَصل وإمكانات التواصل المختلفة ، للإبقاء على أنفسنا، في ظِلّ الحجر، ذواتًا مُتصلة ، مبدِعة ، مُنسجمة ، متناغمة ، نتبادل التّحايا و الأفكار و مفردات التّواد و التّحَابّ و الأمل ، و الحلم بغدّ امن و بَديع نتمثّله غيرَ بعيد ، تستحيل فيه آلامنا و وَساوِسنا إلى حَكايا نوسْتالجية جميلة، واستذكارات لطيفة لِلحظات متوجّسة و مرعبة، نستدعيها على سبيل التذكر و الاستئناس من بَطْن زمن غابر غادر قاهر ، قوَّض أجندة برامج وأنشطة تلاقينا و تزاحمنا ، ودَردشاتنا الحميمة و ضحكاتنا قبلَ و بعدَ كلّ عرض مسرحي ؛ و سوف نذكر يومًا ما فعله بنا الوباء ، و وَقْع الحجر و البِعاد على نفسياتنا ، ولا شك أنّنا سَنسْتحضر وقتذاكَ الجهود الحثيثة للرجال و النساء على السّواء، الذين أبْقوا على حياة المسرح بمبادرات متنوعة ، ومُثابرات مختلفة ، تمامًا كما حافظ الممثّلون و المُهرّجون و فنانُو مسرح العَربات على إرْث أبي الفنون من الضّيَاع إبّانَ العصور الوسطى الحالِكة و القوانين الزُرْق، فكانت اجتهاداتهم المتواضعة وحماستهم للفنّ و إرادة الحياة ، بمَثابة مَن أشعلوا في الدَّيَاجى بأنَامِلهم المُلتهِبة بِضع شُموع ، ولمْ ينشغلوا بسبّ و لَعن و قَدْح الظلام الدّامِس ، فكانت جهودهم الضئيلة المحدودة ، و آهاتهم و زَفَراتهم المتصاعدة ، إرهاصات و عَتبات مُضيئة لانْبِلاج فَجر الأنوار ، و ما تَلاهُ من خطوات مُتوثّبة ، أثمرتْ ازدهارا مُطّردًا لِشتّى ضُروب الفكر و المعرفة ، و مختلف ألْوان الآداب و فُنون العرض والأداء.