اعتاد الروائي مصطفى القرنة أن يقدّم لنا أعماله التي يجتثها من الواقع المعاش، لتتحوّل إلى لوحاتٍ مُعبرة يكتنفها الخيال الجميل، خيال الكاتب والروائي الذي يرى الأمور من زاويةٍ قد يصعب على غيره التقاطها، ولكنه بأدواته المميزة واطلاعه وثقافته الواسعة يستطيع أن يحوّل هذا الواقع إلى خيال أدبي جميل له الكثير ممن يتابعونه ويهتمون به . من الروايات الصادرة حديثا، والتي تتحدث عن الوباء الذي ضرب العالم بكل أجزائه، ولم يفرق بين أبيض وأسود أو غني وفقير، روايته الجديدة الصادرة حديثاً، والتي عنونها ب( هاربون من كورونا)، وقبل أن نلج إلى دهاليز هذا العمل الأدبي لا بد لنا من أن نسأل، هل الكتابة عن الأوبئة والكوارث يؤرخ لمرحلة ما، أو أن الحديث عنها هو مجرد وسيلة لدى المهتمين بالكتابة، لتقديم ما يجول في أنفسهم من أفكار في قالب جديد . قدّم لنا الروائي مصطفى القرنة عملاً أدبيا يصف به هذه الجائحة(الكورونا) التي أصابت العالم بأسره، ومن خلال هذا العمل الأدبي استطاع الروائي القرنة من تمرير مجموعة من الأفكار بأسلوب سردي جميل ينم عن الثقافة الواسعة والاطلاع الكبير للروائي .لعل أول ما يلفت انتباه القارئ أو المتلقي هو عنوان الرواية ( هاربون من كورونا ) ، فالعنوان هو المفتاح الذي من خلاله يستطيع المتلقي أن يسبر أغوار النص ، ويعلم شيئاً من ملامحه الأولية، فمجرد نظرة على العنوان يستطيع المتلقي أن يربط بين العنوان وبين هذا الوباء الذي أوقف الحركة فوق الكرة الأرضية، فهو يمهد الطريق للمتلقي للدخول إلى متن العمل. يتكئ الروائي القرنة في هذه الرواية على ثيمة المرض والصحة التي تسيطر على معظم الفضاء الروائي، وتتعدد الأمراض التي تذكرها الرواية، ودائما يكون علاج هذه الأمراض عن طريق تناول الحيوانات البرية، وكأن الروائي القرنة يريد أن يمهد لسرد مجموعة من الحقائق التي ظهرت مع ظهور وباء الكورونا، بل نراه على لسان أحدى الشخصيات يريد أن يعقد جلسة محاكمة لبعض الحيوانات التي يمكن أن تكون السبب في ظهور هذا الوباء . «قال آي بخوف : ماذا تريد سيدي من الجمل ؟؟ - أريد أن أحاكمه، سترى بعينيك أنه سوف يعترف بجرمه الذي قام به ، إياك أن تخدعني آي كأني سمعت أن الخفاش هو السبب .- بصراحة لا اعرف - على كل حال سيأتي الدور على الخفاش إذا ثبتت براءة الجمل .» الرواية رغم اعتمادها واستنادها على بعض الحقائق إلا أن الخيال له الحصة الأكبر، وهذا ما يميز الأعمال الأدبية ويبعدها عن السقوط في المباشرة ، فالكاتب يستخدم مجموعة من التقنيات الفنية، وذلك لرسم شخصيات خيالية تناسب الموضوع والحدث والتحكم بلغة السرد والحوار وإدارة الأحداث وكل هذه التقنيات في مجملها تشكل في نهاية المطاف الفضاء الروائي . وإذا عدنا للرواية التي بين أيدينا ( هاربون من كورونا) نرى أن الروائي القرنة قد أبدى الاهتمام في رسم شخصيات الرواية ، فالشخوص من العناصر المهمة في بناء الرواية، فتحريك الأحداث وتطورها، وتجسيد الأفكار لتصل إلى المتلقي، كل هذا يجعل من الشخوص عنصراً هاماً في العمل الأدبي . ظهر في الرواية مجموعة من الشخصيات وحاول الكاتب أن يرسم لكل شخصية الدور الذي يناسبها، فهذه شخصية (الشمين) الذي يمثل دور رئيس القبيلة ويعمل بتجارة الحيوانات البرية كالنمور وغيرها، ويصفها كعلاج للكثير من الأمراض، وها هو يصف علاجاً للفتاة (سن) التي لاحظت أن هناك مجموعة من الدمامل قد نبتت في رأسها وكانت قد أدمنت على تناول الحيوانات البرية، فيصف لها (الشمين)عيون السمك، وتطلب من والدها الذي يعمل صياداً في نهر ميكونج أن يجلب لها عيون الأسماك. « في صباح اليوم التالي ذهبت (سن) إلى الشمين (ياه) وكشفت له عن شعرها ومكان الدمامل. قال لها إن المسألة بسيطة ولكنها تحتاج إلى وقت وإن المطلوب هو عيون السمك تُوضع على تلك الدمامل لأن الأصل فيها عين حاسدة قامت بهذا الفعل المريع .عادت للمنزل وأخبرت أمها وطلبت من والدها الذي كان يعمل صياداً في نهر ميكونج أن يجلب لها عيون الأسماك» .وهناك شخصية (لو)شخصية ثانوية، يعمل موظف عند وحش النهر في استلام وتسليم البضاعة من الحيوانات البرية. وشخصية الساحر ( واسي) شخصية تمثل دور المعالج من الأمراض وطارد للأرواح الشريرة ، فهو يعالج جميع الأمراض، سرطان، كساح، وغيرها، ويوضح لنا الروائي القرنة صورة هذا الساحر البشعة ، فهو يشبه الشيطان، شعره طويل جداً، أنفه أيضاً طويل، عيناه حمراوان. أما شخصية الفتاة (سن) فهي فتاة جميلة جدا، في الثامنة عشرة من العمر، تلتزم بأوامر الشمين رئيس القبيلة، ولجمالها يقع في حبها أكثر من شخص، وهي ترفض الجميع، وتُصر على عدم الارتباط بأحد، وآخر هؤلاء المحبين (الشمين) نفسه، وقد هددها اذا لم تنصاع لأمره وتتزوجه سوف يسلط عليها الأرواح الشريرة، ولكنها في داخل نفسها ترفض وترمي بنفسها في النهر مودعة الحياة . يعرف الباحث المغربي «حميدلحميداني» الشخصية بأنها «الشخصية الفاعلة العاملة بمختلف أبعادها الاجتماعية والنفسية والثقافية، والتي يمكن التعرف عليها من خلال ما يخبر به الراوي، أو ما تخبربه الشخصيات ذاتها، أو ما يستنتجه القارئ من أخبار، عن طريق سلوك الشخصيات» . خصوبة خيال الروائي القرنة مكنته من رسم شخصيات وتوليد شخصيات تعيش مع القارئ على امتداد صفات الرواية ، وجاءت هذه الشخصيات تناسب الحدث العام للرواية، ولها خصائص وملامح مميزة تناسب الجو العام للرواية والحدث، فقد استطاع رسم أبعادها الفسيولوجية، والسيكولوجية، فهي بشكل عام تناسب الواقع المعاش بالنسبة للرواية وأحداثها المكان من العناصر الهامة في العمل الروائي، وكما للعناصر الأخرى أهمية، فعنصر المكان لا يقل أهمية عن العناصر الأحرى، فكثيرا ما يكون المكان هو الخلفية للأحداث التي تتسارع داخل أروقة الرواية، كما أن للمكان الأهمية في تنظيم الأحداث وإصباغ المصداقية على تلك الأحداث، وقد تعددت الأماكن التي تم ذكرها في رواية ( هاربون من كورونا)، وقد تم اختيار هذه الأماكن من قبل الروائي القرنة بدقة متناهية ومدروسة من حيث مسرح الأحداث ، وطبيعة وجغرافية المنطقة، فالأماكن المذكورة لها علاقة وطيدة بما يجري في العالم وبما يخص هذا الوباء، كما أن هذه الأماكن تناسب الشخصيات الخيالية المذكورة في متن العمل. فالمكان الرئيس والمسرح لأحداث هذه الرواية هو منطقة المثلث الذهبي ، والمثلث الذهبي يضمه ذا المثلث من الأرض : شمال شرقي بورما (ولاية شان) , وشمال تايلند والشمال الغربي من لاوس, وسكان هذه المنطقة المثلثة يزرعون الأفيون بكثرة , ويعتبر هذا المحصول قيماً جداً بالنسبة لهم, لأنهم يستخرجون منه المورفين و الهروين, وقدبدأ تعمليا تمكافحة شديدة منقب لإدارة مكافحة المخدرات العالمية لهذا المثلث, ولكنه ملم يستطيعوا الحد من هذه المشكلة إلا بنسبة قليلة جداّ فقط من نسبة تجارة المخدرات في هذا الموقع، كما أنهم يعتمدون في عيشهم على صيد الحيوانات البرية خاصة النمور، فهم يجدون السعادة في أكل هذه الحيوانات سواء كانت نمور أو قرود، أو خفافيش ، وكل ذلك له علاقة وطيدة بموضوع الرواية وله دلالة واضحة بما يخص هذا الوباء . وتبقى هذه الرواية غير أنها عمل أدبي يؤرخ ويوثق لمرحلة زمنية معينة، إلا أنه أيضا عمل أدبي يستحق الدراسة ، فقد استطاع الأديب والروائي مصطفى القرنة من تقديم نص سردي جميل ومتقن البناء، تكاملت فيه عناصر القوة والنجاح .