قلت لمجموعة من الأكاديميين والكتّاب في مطلع التسعينيات، وكانت الجزائر تحترق: إن أدبنا الحالي لا يرى جيّدا، لا يملك شخصية تحصنه من السقوط في منظور الأنظمة والأيديولوجيات الضاغطة على المشهد، كما حصل لبعض أدب السبعينيات عندما ذاب في قرارات السلطة، وكان هؤلاء يدركون جيّدا أزمة كتاباتنا وجمالياتها. وذلك ما يتجلى في كثير من أعمالنا التي تدين دون تأسيس واضح يجنبها الانكسارات والمواقف الخاطئة، خاصة ما تعلق بالموقف من الإسلاميين والعلمانيين. لقد كانت الأنظمة تضرب هذا بذاك وتقف متفرجة على الدم، في الوقت الذي كان على المثقف والكاتب معرفة العلاقات السببية التي تتحكم في الأفعال والحالات، قبل أن يتخذ موقفا يقينيا من الفتنة. هناك قائمة من الأسماء العالمية التي تعاملت بذكاء ومروءة مع خردة الثقافة والأنظمة، سواء كانت يمينية أو يسارية أو دينية أو خرافية، أسماء اهتمت بمحنة الإنسان في الكون، خارج أي استثمار لا يقدم شيئا للقيم والمجتمعات. لم يفكر الكاتب والفيلسوف جان بول سارتر في جنسيته، ولا في انتمائه العرقي أو الطبقي أو العقائدي عندما غرز شوكة في ضمير فرنسا الاستعمارية بكتابه الشهير: «عارنا في الجزائر»، مثله مثل سيمون دي بوفار، وذاك ما فعله جان جيني بوقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية في كتاباته وتصريحاته. كما لا يمكننا أن ننسى الموقف النبيل للكاتب الألماني غانتر غراس عندما ذهب إلى العراق دفاعا عنه، ودفاعا عن حضارته ضد مظالم دول التحالف التي تتحالف من أجل مصلحة ظرفية، على حساب الحق والإنسان، كما تفعل الأنظمة المستعدة لتصفية الشعب من أجل بئر من نفط. لقد وقف هذا الكاتب في مقدمة الذروع البشرية التي قامت بحماية المؤسسات الشعبية العراقية، دون أي اعتبار لجنسه، ولا لديانة العراقيين، ولا للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، ولا لقوة حلف الناتو التي شرعت في محو تاريخ أمة، زاعمة أنها ترغب في تخليصها من رئيسها ومشروعه النووي، قبل أن يكتشف العالم أن الحرب كانت مجرد كذبة أطلقها الزعماء وصدقتها شعوبها المغفلة. الأدب الكبير والثقافة الحقيقية يقفان كالأهرام أمام الشر، يسهمان في إضاءة الوعي وشحذه. لقد كان الشاعر بابلو نيرودا شخصا مخيفا، كما صديقه فيكتور يارا، الموسيقي الأعزل الذي أرعب نظاما بأكمله، قبل أن تسحق أصابعه في ملعب أمام آلاف المتفرجين حتى لا يعزف ثانية. أمّا في الحالة العربية فإن الثقافة تقف مترددة، ونادرا ما تسهم في تحريك المجتمعات لأنها تستفيد من الريع، ومن ثم سكوتها عن القاتل بحثا عن تموقع. ثقافتنا ليست نظيفة، ولا تملك الجرأة الكافية للانتحار من أجل ترسيخ موقفها. لذا أصبح الشارع أهمّ مركز حراك لأنّه المتضرّر الأوّل من الأنظمة الشمولية التي تحتكر الوطنية والمصداقية والمعرفة وطرائق تدوير الكذب لتضليل الشعوب والنخب. من حسن حظ هذه الثقافة أنّها عرفت بشرا من نوع بيرم التونسي ونجيب سرور وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام ومحمود درويش ومارسيل خليفة، وأسماء أخرى منحتها بعض القيمة التأثيرية. لقد تحرّك الشارع العربي دون أن يقرأ نظريات راقية تحدثه عن قيمة الوجودية والماركسية والسريالية والتفكيكية والتكعيبية وما بعد الحداثة، أو عن نواقض الوضوء وما قاله جاك ديريدا والطبري. مشكلة المواطن التونسي محمد البوعزيزي، الذي أحدث ثورة، لا تكمن في جهله البنيوية والفقه وتقنيات النص الجديد. لقد منع من كسب قوته اليومي ببيع الخضر والفواكه في عربة متواضعة بعد أن صفعته شرطية أمام الملأ، فانتحر حرقا. لم تعد لحياته قيمة اعتبارية، ولن تعيد له الحداثة كرامته، لا هي ولا الدساتير والقوانين والأناشيد والروايات الإباحية مجتمعة، ولا أحزاب المعارضة والنخب الغارقة في التنظير للأشكال التعبيرية وأنظمة العلامات اللائقة بالخطاب المعاصر. هناك مشكلة حقيقية تواجه ثقافتنا الحالية التي تبدو مترفة ومتخمة، وليست ذات جدوى بالنظر إلى طبيعتها الاستعلائية، أو المنحازة للأقوى، وللذات المنسحبة من الشأن العام. لقد اشتغل الشعر والرواية والقصة والمسرح والفلسفة والحداثات المختلفة مفصولين عن المحيط الخارجي، كما اشتغلت الأنظمة مفصولة عن شعوبها. والحال هذه فإن الاثنين يتشابهان في إهمال انشغالات الأغلبية. أغلب أدبنا أجنبيّ، ومضمون الثقافة أجنبي، وعقلية الأنظمة أجنبية: السياسة مزوّرة والدين مزوّر والأدب مزوّر والثقافة مشوّهة، وقد أسهمت هذه العناصر في اغتيال الأوطان باستيراد مواقف وأيديولوجيات غيرية وممارسات لا علاقة لها بهوية الناس. ما يعني أنّنا نعيش مرحلة وهمية، ما يشبه الاستلاب العام أو الغيبوبة المعلنة في ظل انمحاء أية مناعة ممكنة تجنب الأوطان انقسامات وصدوعا. لا شيء يؤطر حراك الشارع العربي سوى الفراغ، وهو شعور قامت بتصنيعه، عبر السنين، زعامات قائمة على التوريث والتأليه وثقافات ونزعات هدفها تصفية العقل. أمّا المستفيد الوحيد من هذه الوضعية السديمية فهم مصنعو الجهل واللاجدوى. لم تقم الجامعة بواجبها لأنّها لا تملك الوعي الكافي لإثبات وجودها، كما عوّدتنا في مناسبات كثيرة بتنازلها عن دورها الطلائعي لفائدة جماعات وأحزاب وطوائف وأقليات عابثة. هل يجب تنظيف الثقافة من مواقفها الباهتة التي قلّلت من شأنها؟ أم يجب إعادة تعريف الثقافة وتوزيعها وفق معايير وظيفية تخلّصنا من هذه المفاهيم التي طالما تجاوزتها قوة الشارع؟ الثقافة الحالية، كما هي مسوّقة في كثير من الكتب والجامعات والمؤسسات والخطاب الديني والأيديولوجيات، لم تعد تتماشى وسيرورة المجتمعات لأنها تجريدية ومستلبة، أو منفصلة عن جغرافيتها وطبيعة الواقع، ببساطته وتعقيداته. لا أتصور أن محمد البوعزيزي كان بحاجة إلى معرفة خطاب لينين أو كارل ماركس أو ميشال فوكو أو حسان البنا لتفادي الانتحار حرقا. لم تقف إلى جنبه الجامعة، ولا الثقافة قاطبة، ولا مساجد العالم الإسلامي. لقد استطاع الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام أن يقدّما إلى المقهورين ما لم تقدّمه أطنان الكتب المكدسة في الجامعات، كما حرّك محمود درويش ومظفر النواب ومارسيل خليفة وأميمة الخليل ضمائر الناس، الشيء الذي لم تفعله الثقافات الشعرية والسردية التي تعيش حالة من البطنة. من سوء حظ البلاد العربية أن الفكر الفلسفي والإسلامي بقي حكرا على نخبة لم تستطع تحيينه، أي أنها لم تنقله إلى أرض الواقع ليكون عمليا ونافعا، وأغلب الجدل الذي شهدته الدراسات المتقدمة، من حسين مروّة إلى عبد الله الغذامي ومحمد أركون وعلي أحمد سعيد ومختلف التنويريين، بقيّ سجين الورق، إن لم يسهم، دون قصد، في صناعة فتن أخرى لغياب العقل التداولي. كان يكفي الثقافة العربية الإسلامية فخرا لو أنّها استطاعت تحصين محمد البوعزيزي من تلك الصفعة التي أهانته في سوق شعبية بسيدي بوزيد، هناك في إحدى مدن تونس، أو في مدينة أخرى من المدن العربية التي لم تنفعها المؤسسات الثقافية والمعلقات والروايات والأشعار المسالمة. لكن محمد البوعزيزي، بوجهه الأغبر، الذي بلون متاعب العبيد وبؤسهم، استطاع تمرير ثقافة أخرى أكثر فعالية وتأثيرا في الأمة، ثقافة ليست كالتي في المنابر والملتقيات، بسيطة وعملية. لقد فهم كيف يحرك المجتمع بموته، دون أيديولوجيا، ودون علم الاجتماع الذي لا يجتمع مع واقعه مرّة واحدة. ماذا نفعل بثقافتنا لتغدو مفيدة؟ لقد أثبتت الأحداث الأخيرة، أننا غارقون في التنظير والجدل والتجريد، دون أن نلتفت إلى دموع أمهاتنا وجدّاتنا، أي أنّنا أهملنا الجواهر إذ ركزنا على الاستعارات الباذخة والتجاذبات اللسانية. ستسرق هذه الثورات كما سرقت الأخرى، وستوجه وجهة أخرى غير التي تنتظرها الأمّة في ظل غياب ثقافة مؤهلة لتحصين الشعوب من العمى. إن نموذج محمد البوعزيزي هو أحسن جامعة وأفضل شهادة وأجمل نص شعري، وأنجع دواء لواقعنا العربي. إنه أكبر كاتب وأكبر مفكّر، كما أنّ موقفه هو أحسن قرار سياسي. لقد كان أفضل من القصائد، وأكثر قدرة على التأثير في المجتمع، دون فلسفة، ودون تجريد يعمل على تركيم المصطلحات الغامضة. الظاهر أنه من الأجدى أن نخرج من الورق إلى الواقع لنكون مفيدين، وليس مجرد بورجوازيين صغار مشدودين إلى الحاسوب والراتب الشهري بانتظار الترقية.