متى يصبح الانتظار بهجة؟ من المعلوم أنّ الانتظار صعب جدّاً على الإنسان، فكيف به على شاعرة انُتزعت من الوطن، وامتلأت بكلّ أسباب الانتظار؟ إنّها لا تملك سوى الإحساس والقلم والفكر المعلّق بوطن خرجت منه، ولم يخرج منها. الانتظار يسلب الإنسان الراحة، ويفضي به إلى قلق مضنٍ بل يجد المنتظر نفسه على جمر، فلا يستطيع الركون إلى مجلس أو منام أو طعام، ولا يركّز في أيّ شيء، لأنّ هناك شيئاً أكبر منه يشغل فكره وروحه. إنّه صراع أشبه بموج يتلاطم، ويتكسّر على صخور الوقت المسنّنة، يتهشّم وينزف وجعاً، ويعاود الكرّة، لأنّ هناك ما يستحقّ أن ننتظره. الانتظار عند الشاعرة ساجدة الموسوي خرج بنا من الصورة المألوفة، وما الشعر إلّا خروج عن المألوف والمعروف والمتداول، خرجت بنا في رحلة تأمّلية ودهشة من بداية النصّ، من العنوان الذي فيه تتجمّع جماليّة النصّ وجاذبيته، إمّا أن يشدّك العنوان، ويمسك يدك ليسير بك في نشوة طوع قيادته أو ينفّرك، فلا تدخل القصيدة، ولا تكمل القراءة. "بهجة الانتظار" عنوان لم يكن اختياراً عبثيّاً، بل ينمّ عن عمق حالة أرادت لنا الشاعرة أن نبحر فيها، ولسان حالها يقول: سأقلب لكم الموازين، وستعرفون أنّ الانتظار هو نشوة وبهجة. تعالوا معي ندخل في أغوار غابتي النادرة من البهجة المعكوسة، نتفيّأ في ظلال النخيل، نقشط يباسه، ونشرب حليبه النقيّ، تقودنا دهشة البراءة، وما بين دجلة والفرات نغرف من سهلها الممتنع الحلم والبهجة. أين تكمن البهجة؟ أحين أغمض العين على حلم أم عند الاستيقاظ؟ في العادة الإنسان يهرب إلى الحلم من واقعه الحزين المثقل بالخيبات، لكن نخلة العراق سارت بنا إلى لحظة الاستيقاظ. لنقرأ معها تلك الرسائل التي دسّها طائر القطا تحت بابها وطار، وما الطير إن لم يكن هذا التوق إلى الحرّية: غَفَوتُ على حُلُمٍ غامرٍ وانتظار ولمّا صَحَوتُ رأيتُ رسائلَ شوقٍ حزينْ مخبّأةً تحتَ ريشِ القطا رأيتُ القطا دسَّها تحتَ بابي وطارْ أيها الطائر الذي دسّ هذه الرسائل، وحلّق بعيداً بأجنحته الحرّة، سحب الليل، وانصرف، وسرق الليل والحلم وطار. ثمّة صوت قطار وسيف للرحيل ولقاء أبعد من المحتمل. القطار يشقّ الهواء وصور العائلة والأهل والشجر تركض في الاتّجاه المعاكس. غابات النخيل تسافر في الريح، في وضح النهار خرجوا من مفردات الحلم ومن بين سطور الليل، أصبح كلّ شيء متأهّباً للسفر، وكلما شقّ الريح عباب الفضاء وهنت فرصة اللقاء، وتلاشت: وثمَّةَ صوتُ قطارٍ بعيدْ يذكِّرني بالرَّحيلْ وأنَّ اللقاءَ احتمالٌ بعيدْ إذا ً شطَّ عنّي المزارْ وغابَتْ بساتينُ أهلي وغاباتُ نخلي بوضحِ النَّهارْ من زمن قريب كانت هنا تقيم، ولها منها النرجس والماء والأنهر، ليس من زمن بعيد كانت النوارس تطير، والنهر يحمل المسافرين، والطريق كانت تقود الرفاق والأصحاب، والآن أصبحت خاوية، لا إشراقة أمل، ولا بصيص رجاء، تدوّنه الشاعرة في مفكّرة قصيدتها، تسهر على غير موعد، ففي أغوار النهار خيبة معلنة الزهد في أيّ قرار. تتبلور الفكرة رويدا رويدا، وتقشّر الصور المتلاحقة، لتدخلنا في القيمة الحقيقيّة والمشاعر العميقة، تنفذ بنا إلى ذلك الشغف الدفين في قلبها، لندرك عمق الألم وتمسكها بالوطن رغم البعد الجغرافيّ، فأتت على هيئة مطر تبلسم جرح نكأه طير، ورسالة مجنّحة في حبّ في الوطن: مررْتُ بذكرى زمانٍ قريبْ عبرتُ بِهِ أنهرًا وبحارْ وكانَ الطَّريقُ بلا صاحبٍ أو رفيقْ ولا أملٍ أو رجاءْ ليس غيرُ المواعيد واللاقرار ماذا تحمل تلك الرسائل، وما تلك الخطوط السوداء تحمل لمسافر في الريح ما بين الغابات والبحار والأنهار؟ ماذا في جعبة القطا؟ على شفة الفجر يترك تحت بابها رسالة تقول: صبراً، عليها ختم تدلّى من غصن ساحليّ مثل عناقيد حبلى تتدلّى من الكرمة. صور من الألوان تتلاحق من نافذة القطار لتلك الأرض، من موج ثائر إلى شجر الصفصاف التي تحرس النهر، تحمل فوق غصونها العقيق المصفى: تقولُ الرّسائلُ: صبرًا، وما لي احتمالْ تلفتُّ حولي كأنّي لمحتُ غصونًا من الشَّجرِ السّاحليّ تدلّتْ على شرفتي ما بين الشروق والغروب، وما بين الموت والولادة هناك حياة، وهناك انتظار، انتظار مضمّخ برائحة الوطن والبيت وحديقة خلفتها مسافرة في قطار الحياة السريع، تمدّ يدها لتسرق صوراً مزّقتها الريح، علّها تهدّئ توجّس القلب بضمّة من الجلنار، وإذ تفتح النافذة تتسرّب رائحة الطفولة مع الهواء إلى رئتيها، ويتدفّق في المسام نهرا دجلة والفرات، وفي غمرة الصمت يتناهى إليها وكأنّها طفلة ترتدي صوت الوطن وصوت الحنين والنخيل، وصوت العراق، فخبأت دمعة بلون التوجس والزعفران، ومدّت للذكرى سطورها، وراحت تخطّ بالقلب أنينها: عناقيدَ وردٍ تنوءُ بحملِ العقيقِ المُصفّى كلونِ الغروب وأخرى بلونِ الشُّروق وأخرى بلونِ النوارْ وأخرى تضجُّ برائحةِ الزعفران وكدتُ على غفلةٍ من أنا أقطفُ الجلَّنار غير أنّي توجَّسَ قلبي وأدريهِ يخشى السَّراب لماذا فتحتُ النَّوافذ للجلَّنار؟ لأنّي شممْتُ بِهِ دجلتي والفُرات وفي لونِهِ من ثيابِ الطّفولة شيءٌ وفي صمتِهِ كنتُ أسمعُ صوتَ العراقْ إنّ هذا الانتظار مليء بالمعاني والعتب الجميل، إذ تخاطب نفسها إنّ الجلنار يشتعل، والقلب يشتعل، وأنا في ضجيج هذه السكينة من الصباح أستيقظ، أشبه طيراً يبحث عمّن يشبهني. إنّ اللغة الشاعرية تنساب في خفّة وهدوء، بسيطة سهلة تخترق الروح معانيها، وتوثيق لتجاذبات متنوّعة في المشاعر الجياشة بين المعنى والمبنى، وما بين الذي كان والذي يأتي. تصوير كامل لمشهد وجع الانتظار يجعلنا ننتشي بهذه الغربة، فالمعنى ونقيضه والفكرة وعكسها هو الإبداع في التعبير عن هذه الرؤيا. أنا في غربة، ولا أحد ينتظرني سوى الانتظار، وأنا أبعد من المكان وأقرب من الزمان، فأنا غيمة أسير في القفار أوسع من المدى أسقط مطراً من الأماني، لأبلّل يباب معبد الروح المهجور، فهذه الأرض ضيّقة جدّاً، ونار الجلنار طوفان يعيد على مسامعي الحكاية. و هناك قصيدة أخرى لم تنته كتابتها، هناك من ينتظر الماء، ماء الحياة من خاصرة الأبدية: لماذا استفقتُ على النّار في الجلَّنار؟ وفي كبدي ألفُ نارٍ ونار؟ لأنَّ الطيورَ تفتِّشُ عن مثلِها في المَدى والقفارْ وأنَّ الأماني غيومٌ تسيرُ فإنْ زخّتِ الماءَ رهوا أفاقت بنا بهجةُ الانتظار إنّ الشاعرة تبحث معنا عن بهجة الانتظار، تدوّن مأساة معقّدة حولها، وهي ليست مأساتها وحدها بل مأساة وطن. يوميّات بسيطة واستعارات نتعرّف من خلالها إلى الجزء الغريب أبداً، المخفي في ثنايا روحها. الحرب سلبت من الشاعرة دجلة والفرات شريان الحياة للعراق، وسلبت منها الطفولة وأشجار الصفصاف والريحان، وانتهت في قطار يسير في الاتّجاه المعاكس، يواجه الريح، يستبدل بالجلنار النار، وبرائحة الزعفران رائحة الانتظار، حسرة ويقظة فجر تسير فيها، تصنع بهجة اللاموعد واللاقرار في المنفى!