غالبا ما تكون الذاكرة فضاء فسيحا تمارس فيه الذات طقوس الحنين، فتغدو عبادة سريّة تطرح مخزونها في شكل ومضات تنبع من الماضي وتتصارع مع الحاضر، فترتسم في الذهن صورة معقّدة تلتبس بالشعور وتتلوّن بالعاطفة، والشاعر وحده من يتقن فن البوح عبر دفقات شعوريّة، قد تأتي مسترسلة في لحظة بعث للمعنى، ينتجها عبر تراكيب وصور وأخيلة، هي جملة من العلامات اللغويّة التي تشكّل منطق المبدع الخاص، يبتدعها في لحظة مخاض عتيّة، هي أرجوحة الشاعرة سليمى المليزي، وهو انتظارها ينشأ من فضاء مخصوص في التعبير لتبني قولها الخاص ويحكي ذاكرتها بين خطيئة العشق ولهفة اللقاء: تفارقنا... إذا؟؟ ولم نتعاهدْ على موعدِ اللقاء ولم نمنح لبعضنا عنوان اللهفةِ مثلما كنّا نقتحمُ كلّ الخطوات تحت شجرة الكرزِ حركة مدّ وجزر تحكم الخطاب تقابل عبرها بين الحاضر والماضي، لحظتان فارقتان تتشكّلان بين أسلوبين متناغمين ، أسلوب إنشائي هو قول شعري مخيّل ونوع من التصوير التعبير تشكّل عبر الاستفهام الانكاري وقد مرّ بأعماق قلب الشاعرة ونفخت فيه من تقلّبات العاطفة وخلجات النّفس. إنجاز للشّعور في لحظة امتعاض وذهول عن اللحظة. وأسلوب خبري مثّل حقيقة الحال بين الدّهشة والامتعاض، صورة بليغة رسمتها تنجزها بساطة اللغة ويلوّنها الاستفهام بألوان تخييليّة لتلتحم الصورة الشعريّة بعمل القول الإنشائي. هي «أرجوحة الانتظار» فضاء آخر، يقتحم الذاكرة ويستفزّها، فترتدّ إلى زمن مشرق ومثالي كأنّه البعث في عالم السماء والفراديس يتوارى وراءه صوت رومنطيقي يمطر عشقا وصبابة في فضاء الانتظار ، والشاعرة تقف على مسافة بين الزهو والرحيل، تتلمظ لحظات عشق عتيدة. تسرح في زمن طفولي وتحاور الفراديس. هو بوح وخشوع في محراب الذكرى بُعث فيه اللقاء والوصل قسرا لتنعم بلذة الهوى في مسرح الحلم الفسيح. تستعير لهفة أرباب العشق. بين ارتشاف نسيم الصباحات واحمرار الخجل. هي لحظات العشق الممنوع. أو امتناع العشق في زمن مبعثر، لا تملك فيه إلا أن تقف على أطلاله. فتنزف الذاكرة بمخزونها وتتلذّذ وتتألم. وبين الألم واللذة مسافة انتظار على أرجوحة تحت شجرة الكرز: كنّا نرتشف منها نسيم الصّباحِ ونركض تحتها كطفلين تائهيْنِ نلعبُ بأزهارِها الأرجوانيّة الزهريّة التي تتطاير في الهوى وتعبث بشفتيّ هنا يتشكّل إيقاع الغياب والانقضاء، وتتحوّل الأحلام إلى كينونة اندثرت «كنّا»، فتغدو الأرجوحة من هذا المنطلق رمزا للحب الآفل، وكأن النص بأكمله حركة نزول من السماء إلى الأرض، لحظة الحاضر التي مثلتها اللوحة الشعريّة الأولى أو صعود من الأرض إلى السّماء التي ترتد فيها النفس حسيرة لا تتقن لغة الغياب ، فانثالت على اللحظات المنقضية تستدرجها عبر بوح شفيف، تترشف من منابعه سحر الوجد. «لم نتعاهد على موعد للقاء ولم نمنح لبعضنا عنوان اللهفة» ولكن الشعر أقوى من الواقع حين عاند الغياب حضورا وجعل من الفراق نعيم الذكرى. هي الذاكرة تلك الفضاء الفسيح للهو وانبعاث الفرح من صميم الوجع والحب من الفراق. لا شيء يمكن أن يمنع الحلم أن يزهو ويزهر بين لحظات هاربة تقتنصها الشاعرة بين شوق وحنين مغلفة بالكبرياء والوجع. إنه تأجيج العواطف بالألم والوجع واللذة في ذات الآن، فتغدو الذكرى عنصرا مركبا تعيش فيه اللذة من خلال الألم وتستعذب فيه الألم. هنا يتشكّل الفضاء النفسي عبر رمز الأرجوحة وهي أشبه بهزّة صوفيّة مغلّفة بالشوق لبلوغ النشوة لحظة البوح.