"عليك اللهفة"بصمة شعرية متفرّدة بذاتها تطبع أبجديتها بحروف من ذهب مرصّعة شغفا وشهوة ولهفة،بعد نجاح ساحق في حقل الرواية تطلّ علينا أحلام مستغانمي بنبض شاعريّ ما فقدت إيقاعه المتوارث في تجلياتها الروائية .في مولودها الأدبي الشعري الصارخ ما نأت عن التنقيب في سر العلاقة الاستثنائية الحبلى بالكثير من الإرهاصات والمعتقدات التي تربط آدم وحواء بحبل سريّ لم ينقطع بعد بفعل جمّ الصراعات المتوارثة ردحا من الزمن،لكن هته المرة في ديوانها تتعمق أكثر في علاقة تكاد تحكمها النرجسية هي الشاعرة والإنسانة التي لامست العديد من المحطات واختبرت الكثير من الزلاّت والمشاعر لكن لا تحيد أبدا عن شرعية الحرف وقدسيّة الطرح في أبهى الصور الشعرية وبأدق التفاصيل الممكنة وتقف محتارة بين الشاعرة الملهمة وبين العاشقة المعتمرة عواطف جمّة من الحب،الصفاء والمصداقية التي تعدّ تلكم أساسيات ثالوث البوح الإبداعي لتلامس شغاف القلوب وحتى لا تمرّ مرور الكرام بين ما يراقص قلب القارئ وما يستوقفه محلّلا وقارئا قبيل أن يكون عاشقا لمدادها وأبجديتها .وحين تصرّح ضمن ديوانها بالآتي :"على مدى عمر خنت الشعر،كنت دائمة الانشغال عنه بكتابة ما يفوقه شاعرية،حرصت أن تكون الحياة هي قصيدتي الأجمل ...لا تبحثوا في هته النصوص عن أشعاري،ما هذه المجموعة سوى مراكب ورقية،لامرأة محمولة على أمواج اللهفة،ما ترك لها الحب من يد سوى للتجديف بقلم ".وهذا إن دلّ على شيء وإنما يحيلنا بعين بصيرة إلى لهفتها الشاعرية والى عمق ما تحبل به من أبجدية كلّما عانق المداد بوحها الذي دوما قد نجده مغريّا،عفويّا ويحمل على ألف دلالة ترمي بنا إلى التجديف في عالمها الأدبي طوق نجاتنا الوحيد يكمن في قدرتنا على التحليل واستقراء خبايا الحروف التي تعدّ تلكم الأخيرة نتاج مخاض عسير مع الحياة وما يتولّد منها من خبرات وتجارب التي ما تزال تصقل ذاتها بذاتها ضمن حركية المعنى ودلالة النصوص المتدفقّة بقلب إنسانة وأديبة،وتلكم المراكب الورقية هي زوارق نجاة من ثمالة الحرف وتمرّد العلاقة التي تجمع دوما الأديب الموجوع بقضايا متباينة وبين واقع ما يزال يترنّح بين ما يفرضه وما نأمل إليه،أدباء كنّا أم عشّاقا أم أناسا عاديين أم فئة أخرى تحكمها الحسابات والعلاقات المتشرّدة بحكم ضياع مفتعل لفئة مقصودة تقاس بالزمن والظروف يحكمها وجع القلم الذي سيظل الأوفى ورفيق الدرب بين متاهات الخيانة فهل تراها بلغت "سنّ الرشد الأدبي" ؟كما تفضلت يوما وذكرت وهذا بحكم كل البوح الصادق وتعرية المواجع في عالم يتخفّى وراء بهرجة الألوان وضيق الآفاق وتعجيز العواطف النبيلة،إن تمرّدنا وخلعنا كل الأقنعة وتحرّرنا من التبعية الإبداعية . حينما نستدل إلى العنوان الموسوم ب:"عليك اللهفة " فانّ ثيمة العنوان تحملنا إلى تمحيص ضمنيّ لرغبة الأديبة إلى تعمّد الإشارة المباشرة لذاك أو تلك بين ثنايا الحروف،هو حنكة الأديب في استشعار نبض القارئ ليس استعراضا لعضلات الأبجدية بقدر ما هو تهليل بغزارة الآتي بين البياض المتبقي لقارئ شغوف،متيّم بالاحتمالات واستقراء النتائج البعيدة لفعل انتحاري بحكم جنونه خانة التذوّق .وأرى في ذلك بشكل موضوعي شجن الكاتب ووجعه النازف حينما يفتقد لشئن مميّز بالحياة كافتقادنا للوجود،للوطن،للأمل،للحب بمعناه السّادي ...ونظلّنا متشبّثين بجرأتنا وقراراتنا إثباتا لشرعية عذرية بنا وفينا كتّابا كنّا أم قرّاء .لتسترسل الأديبة في طرح مناجاتها بعالم البوح هذا ، معبّرة عن حاجتها لتقول " أحتاج أن أحبّك ككاتبة "وهذا دليل قاطع عن عفوية الطرح وجرأة ملامسة عواطفنا بخاصة في مجتمعنا العربي المحكوم بكذا طابو أو حاجز فلم تشأ أن تصرّح بحاجتها إليه كإنسانة بل ككاتبة لتبعد شبهة التصريح الضمني بالحب الذي ما يزال عقدة شكسبيرية بمجتمعاتنا بخاصة من طرف حوّاء،التي تحكمها غاية العادات والتقاليد والأعراف والكثير من الوهم في زمن منح فيه آدم كل الصلاحيات...وفي استرسالها لأبجدية – أحيانا ...- فهي تعبير صريح وجرئ عمّا نرزح تحته حين نعجز بل نهزم أمام عواطفنا التي هي في الأساس طوق نجاتنا في عالم محكوم بالنفاق والكذب،وكل الديوان يتحدث عن تواطؤ العلاقة بين الجنسين،عن تكافؤ العلاقة وتباينها بين ما له وما لها،ما عليه وما عليها،ما يكون بحقّهما وما ضدّهما،لكن ثمّة دوما نقطة بداية وفواصل متتالية لشيء لم يأت بعد،لبوح عقيم وحجرشة صمت وعبرات متحجّرة بين المداد تكشف كنه الأديبة غالبا وتعرّي دوما نزيفا داخليا لأمة ما تزال تعقد المفاوضات لفكّ بكارة قضايا عالقة وتقف حائرة أمام علاقات شرعية لكن دوما تجدها تمسّ عفّة القيم التي تتغنّى بها في الخواء .وعند تكملتها لجرأة الطرح المتعلّقة دوما بدلالة العنوان الذي تتضح معالمه بين حرف وآخر، تواصل دوما الكشف عن التواطؤ الحاصل بين الذكرى والأبجدية،بين البوح والكتمان،بين غيرة لربما يراها الكثيرون مرضا وبين حبّ وحرص في مقام الشرف،وعن سفر دائم بين أجندة التاريخ الذي يظل مبهما للكثيرين بحكم التعتيم الحاصل منذ غابر العصور،وبين كل تلكم الأعمدة من ذكرى،حبّ وتاريخ هندسة فعلية لمثلث برمودا العتيق الذي تظل قاعدته أساسا متينا في السعي الدائم لمعانقة وطن ....وطن الحب ...وطن التاريخ ...وطن الذكرى في بحث مرهق عن الهوية والانتماء في زمن التيه والشتات ...ووقت نلاحقه ولم نصل إليه بعد بحكم نرجسيّتنا أو بتعبير أدقّ بحكم معاقرتنا لضجيج بارد وآخر تسكنه اللهفة وشبق الحضور . كل الألق اللغوي والشعري المنساب كحبّات اللؤلؤ بديوان " عليك اللّهفة " قصائد منسية وأخرى تعاقر الذاكرة وأغلبها تدمن الارتقاء وترنو إلى جنون لغويّ يبحث عن توأمه من الغواية لتحقيق قداسة الطرح الأنثوي المحبوك بآدم الظلّ المنعكس لوهجها ليصيّر الديوان مواسما للقطاف العاطفي بكلّ تجلياته ، انكساراته وتصدّعاته ...ميلاد للرغبات المكبوتة وحتى الفاضحة لصمتنا وخجلنا المفتعل ...عن إغواء البدايات وهزيمة النهايات ...عن إغراء الفرح لنا وصفعة القدر ...عن جنّة ونار لنا الاختيار بينهما ...عن إدمان وثمالة ...عن صفاء وجنون ...عن انتظار وترقّب ...عن حاجة مفرطة للصبح وحجّة للغياب ....عن مواسم قاحلة وأخرى ماطرة ... عن حوار غائب في جلّ علاقاتنا وهو بؤرة صراع العالم وسبب دماره ...عن الممكن والمستحيل ...عن الشيء واللاشيء ....عن العبث وعن الطموح ...وعن ....وعن ... وعن ...عن سرقتهم لفرحنا وعن اغتيالهم لا آمالنا ...عن ولوجنا العالم ببراءة وعن تحوّلنا وسقوطنا الاضطراري وحتى عن خياراتنا المصيرية . لقد جاء ديوان الأديبة "أحلام مستغانمي "ضاجّا بالدلالات والمواقف الجريئة، بميكانيزمات الطرح وحريّة التحليق من باحة إلى أخرى،لتغدو العلاقة من الوهلة الأولى سفرا ممتعا بين أجندة الحروف، لتكون الحروف الدلالية أشدّ عمقا من الصور،لتعبّر عن اللاوعي والأنا الباطن للإنسان فينا،لتبحث في مكامن وزوايا وجوده،معانقة ألمه،بهجته،شتاته،غاياته وملامحه،العلاقة التي تجمع آدم وحواء ههنا علاقة هدنة،مساومة،بحث عن الخلاص،البحث الجاد عن قناة للبوح،عن كسر حاجز –لو- لمعانقة الانتماء ...الأمر كلّه يبدو جليا من صورة غلاف الديوان،صورة دلالية تحمل ملامح الغوص في مكنونات الوجود والرقص على حبل الاحتمالات بين أهبة المبادرة والغاية في التراجع .