للتذكير: إن معظم الكُتَّاب الجزائريين بدأوا بكتابة القصة القصيرة قبل أن ينتقلوا إلى كتابة الرواية..فقد كانت بداياتهم بالقصة القصيرة فرصة للتمرُّن وتطويع اللغة ،وربما كتبها بعضُهم لاسْتِسْهالها أو لسهولة نشرها، وقليلون منهم استمرّوا يكتبونهما معاً. لكنْ منهم مَن لم يترك كتابة القصة وحسب، بل أصبح ينظر إليها بعيْن الدونية والاستخفاف، ولم يعد يقبل إلا صفة الروائي تباهياً، ولا مبرر لمثل هذا الموقف غير الأدبي المتعالي، إلا بكونه مَرَضاً مُزْمناً يصيب المرْء بفعل تضخُّم الأنا والنرجسية المُفْرطة. فأمَّا (عبد الكريم ينِّينة) فقد عهدْتُه يكتب القصة القصيرة جدّاً بسخرية هادفة لاذعة، ولعلَّها أنْ تكون أصعب من كتابة الرواية، بالنظر إلى ما تقتضيه من تركيز وتكثيف،فهي بذلك إلى الشعر أقرب.وهو كاتب مُقلٌّ، بقي مدة طويلة قبل أنْ يطالعنا بهذا النص المُطوَّل الذي وجدتُه مُميَّزاً جديراً بالقراءة.فهو من النصوص التي تدعونا لئلاَّ نحْصُر القراءة في أسماء مُكرَّسة،وألاَّ نتوهَّم أن الكتابة الروائية حكرٌ على بعض الكُتَّاب المعروفين، فأكثر الجوائز كانت من نصيب الجيل الجديد في السنوات الأخيرة. العنوان الرئيسي: ((هاوية المرأة المتوحِّشة)) متبوع بعنوان فرعي : ((رائحة الأم)). الهاوية منحدرٌ شاهق بعيد القرار وسُمِّيت جهنَّم هاوية، ومنها قوْلُنا على حافَّة الهاوية أي هو قريب من السقوط والهلاك.وقد أضيفت إليها (المرأة المتوحِّشة) ما من شأنه أن يزيد الهاوية شحنة من الخطورة بفعل صفة(المتوحِّشة).غير أن العنوان الفرعي((رائحة الأم))، يأتي لينتشل شعور المتلقي ممَّا يوحي به العنوان الرئيسي من خطر مُحْدق أو هو مكانٌ ينبغي تجنُّبه ليعيده إلى رحم الأم وحنانها سواء أكانت الأم هي المرأة التي حملته ((وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ))أو هي الأرض التي تحِنُّ نفسُه إليها على الدوام. فأمَّا المرأة المتوحِّشة، فإنه لما خرجت عائلات جزائرية للنزهة في الغابة بعد عيد الأضحى كما جرت العادة،تاه طفلاها في الغابة فظلَّت تبحث عنهما إلى أن استقرَّت في الغابة مع الوحوش ولم يعدْ أحدٌ يراها.وهذا بخلاف الرواية الفرنسية التي عمدت إلى السطو على الفضاء الجزائري بتشويه التاريخ فلا هي فرنسية ولا يهودية ولا كانت سبية لدى الأتراك، بل((إنها عن أب، عن جد،وهذا ما لم يفلح المحتلُّ في اختراقه،برغم إقحامه الأدب والفن في المسألة، وما اللوحة التي رسمها الفنان التشكيلي"أوغست رينوار" سنة 1881 إلا حلقة في سلسلة تزييف معالم وتاريخ مدينة الجزائر))( إن رائحة الأم/الوطن تُشتمُّ منذ العبارات التي تتصدَّر المتْن ((إلى بلد البترول والشهداء))، ويضيف في الصفحة التالية ما يحيلنا على التاريخ الاستعماري فيقول: (( في مطار شارل (ديغول) سأل شرطي الحدود كاتب أغنية (يا المقنين الزين) "كم تنوي البقاء في فرنسا؟" فأجاب (عمي محمد الباجي): ((سوف لن أمكث مائة وثلاثين سنة)). تتوزَّع الرواية على ثلاثة فصول: الفصل الأول عنوانُه ((مرزاق))والثاني: ((دحمان)) والثالث :((مرزاق ودحمان)) يمكن القول إن الشخصية التي يختارها عنواناً للفصل ، وإنْ كانت رئيسية إلا أنها تشكل الإطار العام الذي تنسلُّ منه قصص أخرى، ونكاد ننسى أسطورة المرأة المتوحِّشة ولو تكرَّرت العبارة في عدَّة مواضع، لتستمرَّ دلالة الهاوية حاضرة في ثنايا المتْن تطلُّ علينا من خلال الاغتيالات المتتالية للشباب ودخول (مرزاق) إلى المصحَّة والاضطرار إلى الهجرة واختطاف (دحمان) من قِبَل العصابة الإرهابية لإجباره وصديقه (رضا) على معالجة أميرها. ولمَّا يُصابُ (رضا)ويحمله ويهرب به إلى أنْ يصبح جثَّة هامدة، يقع في قبضة جماعة أخرى مسلَّحة ضدَّ الإرهاب لكنَّها تحبسه وتزعجه بالأسئلة وكأنَّه هرب من الجحيم إلى الجحيم. لا يعتمد الكاتب طريقة واحدة في السرد، ومن شأن هذا التنويع أنْ يرفع الرتابة والملل .فهو أحيانا الكاتب/ الراوي برؤية من خلف وقد ينقل الحكاية على لسان آخر كما في حال أسطورة المرأة المتوحِّشة أو يرتدُّ إلى الماضي أو يجعلك تقرأ الحكاية من رسالة أو ينتقل إلى استعمال ضمير المتكلِّم كما في قصة(دحمان)، حيث لا مسافة بين الكاتب والشخصية وحيث يحمل القارئ على الاندماج في المقروء فيعيش معه في غرفة بلا نوافذ إلا من كوَّة صغيرة، ولا يسمع إلا قرقعة المفاتيح وصرير الباب عند مواعيد الأكل.ولم يبْقَ له من أمل لولا أنَّ(خيرة) المختطَفة أيضاً هي التي كانت تحمل إليه الأكل ،فيتعلَّق بها إلى أنْ يهربا ذات ليلة فيعود خطر الهاوية مرة أخرى ، حين ينفجر لغم على الفتاة فتتطاير أشلاء ويرى ذراعها، فلا يملك إلا أنْ يسحب الخاتم النحاسي من أصبعها وكان قد اجتهد في صنعه ليكون عربون حب يمهِّد لزواج قادم. قصة علاقة مثيرة لا يمكن اختزالها في سطور خاصة حين نستحضر شريط حياته المتعبة، حياة اليتم والفقر، وضرورة الإحساس بالمسؤولية لإعالة أسرته ، وحين نتصوَّر قصة فتاة اختُطِفت، فلا المختطِفون يرحمونها ولا أسرتها وأقاربها في مجتمع ذكوري ولو لم يمسسها إنسٌ ولا جان... في الفصل الثالث تتوالد مجموعة من المقطوعات القصصية. (عليلو وحسن ومصطفى ووريدة وسلفيا). لكن تؤطِّرها قصة " مرزاق ودحمان" ،فاسماهما يقترنان في العنوان لما بينهما من تشابه في عدة جوانب: توفي والداهما وهما صغيران وتوفيت والدتاهما بعد هجرتهما ، فكان كلاهما مجبراً على إعالة أسرة ثم تعرَّض كلاهما لتهديد الإرهابيين واضطرَّا إلى الهجرة.هذا التشابه يثير الحيرة لدى (مرزاق) ، ويلح على (دحمان) أن يبوح له بالسرٍّ الذي يجعله مهموماً يستغفر باستمرار، إلى أنْ يكشف له عن حقيقة صادمة، حيث أرغمه الإرهابيون على قتل أحد الشباب لكنه أخطأ الهدف لأن المستهدَف الذي كان يرتدي جاكيت بنِّية كما حدَّدوه له، كان لحظتها قد سلَّمها لصديقه الذي أعجبتْه وأراد أن يعرف ما إذا كانت على مقاسه.وحينئذ يُعلِّق (مرزاق) قائلاً: ((كنتُ مصدوماً وأكاد أختنق، وكان دحمان يبكي ويتخلَّص من سرِّه وينقله إليَّ ملفوفاً في ألمه. كنتُ المستهدَف بالقتل ، وفي لحظة من الزمن نزعتُ رداء الموت وألبستُه صديق العمر زيكو لعلني قاتله الحقيقي، وأنا الآن أجالس قاتلي المفترض ..)) هذا القتل العبثي وهذه الصُّدف الغريبة تثير لدى المرء أسئلة وجودية لا تنتهي وكأنَّها وجه آخر للهاوية.لولا أنَّ مجموعة الشباب المغتربين يفتحون آفاقاً للفرح، يردِّدون أغاني البهجة ويرقصون، فرائحة الأم لا تفارقهم. عندما يوظف الكاتب التراث الشعبي، فإنَّ ذلك يتمُّ وفق ما يُمْليه السياق،ولمَّا يحيل على جوانب من التاريخ،فإنَّه لا يترك المعلومة مغلوطة كما تلقَّاها المتعلِّمون في المدرسة أو كما يتمَّ تداوُلُها بين الناس، وإنَّما يأبى إلا أنْ يُلحقها بتعليق يفسِّر أو يصحِّح.وفي ذلك دعوة إلى مراجعة التاريخ. يعتمد الكاتب بناء بسيطاً تبدو فيه قصة (مرزاق) في الفصل الأول مستقلَّة عن قصة (دحمان) في الفصل الثاني، لكن لا تكتمل إحداهما ،إلا بالأخرى حين يجمعهما في الفصل الثالث.وربما مردُّ تلك البساطة،إلى أنه منغمس في محيط الفقراء والبسطاء فجاءت لغتُه أيْضاً سهلة ميسورة لا تعيق الاسترسال وتحمل القارئ على أنْ ينغمس–بدوره- في الأجواء التي أرادها، وقد وفِّق في ذلك بقدْر من المتعة لا يخْفى.