أولاً:صدرٌ للحَرْب إنَّ دور الأمير في مقاومة الاستعمار أمرٌ لا يخفى،لكنِّي-ها هنا- لا أتطاول على المختصِّين من المؤرِّخين، وإنما أفضِّل أن أطرق الموضوع من خلال أدبه وبإيجاز شديد، حيث تبرز الخصال التي كانت تطبع سلوكه وأعماله. وقد التقط الأديب الكبير (واسيني الأعرج) لحظات مفصلية من حياة الأمير في روايته المُميَّزة: ((كتاب الأمير))بحيث كشف عن البُعْد الإنساني لدى هذا الرمز الوطني بأنْ انتشله من لغة التاريخ التقريرية الجافَّة وكَساهُ ثوباً أدبياً مُشوِّقاً بلغته الميسورة الممتعة في ظروف راج فيه الحديث عن صراع الحضارات. ما جعلني أستحضر ما قيل عن سينية البحتري في وصف إيوان كِسْرى من أنَّ((البحتري نقَل كِسرى من الإيوان إلى الديوان ، فكان في الديوان أخْلَد منه في الإيوان)). لقد كان الأمير عندما يفخر، يعود إلى تقليد الشعر العربي القديم، وأحيانا بعبارات وأشطر تحيل مباشرة على أصحابها، ففي قوله: إذا ما اشتكت خيلي تَحَمْحُماً ::: أقول لها: صبرا، كصبري وإجمالي وأبذل- يوم الروع -نفسا كريمة ::: على أ نها-في السلم- أغلى من الغالي فأي دارس للشعر العربي –لا شك- يستحضر قول "عنترة ": فازْوَرَّ من وقْع القنا بلبانه ::: وشكا إلي بعبرة وتَحَمْحُمِ وقول "ابن كلثوم": إنا لَنُرخص يوم الروع أنفسنا ::: ولو نُسام بها في الأمْن أُغْلينا لكن لا ينبغي أن يغيب عن البال أن "عبد القادر الجزائري" عاش أواخر عصر الانحطاط وبوادر النهضة، فكان ككُلِّ المصلحين الذين عاشوا في القرن التاسع عشر واستحضروا الماضي نموذجا يُحتذى. وبما أن الشعر ديوان العرب فقد احتل الصدارة، كما كان يحلو له أن يردد قول الشاعر: إذا جهلتُ مكان الشعر من شرف ::: فأي مفخرة أبقيتُ للعرب؟ فضلا عن أن الدراسة التقليدية الموسوعية كانت تسوق المتعلم إلى أن يأخذ من كل شيء بطرف. غير أن الهَمَّ الذي كان يشغل ّعبد القادرّ في استحضاره الماضي أن يبحث عن القيم الإنسانية التي يُكتب لها الخلود. ففي فخره يركب المكارم ويبادر إلى نجدة المستغيث ويأبى اللؤم ويرفض الجزع والهلع والغدر والكذب ويطلب العقل والعلم ويدأب على النضال وأقوالُه تصدقها الفعال كما يقول، ويحمي النساء والجميع يثقن ويثقون فيه. ولا أظن أن قصيدته عن "البدو والحضر" -التي يعرفها المتعلمون-يوازن فيها بين ريفنا وباديتنا، لأني واثق من أنه لا يُعمِّم داخل المجتمع الجزائري وهو الذي يدرك أن في بلده أبطالا وشيوخا وَقورين بعلمهم، إنما كان –في تقديري- يستحضر مجتمعيْن: مجتمعنا المتخلف الأقرب إلى البداوة والمجتمع الآخر المتمدن الذي استعمل ما أمكنه من الوسائل للاحتلال والاستغلال باسم نشر الحضارة فرأى فيها حضارة ظاهِرُها وفاء وباطِنُها غدر فارتسمت في ذهنه صورة البادية ليس بوصفها رقعة جغرافية بها الصحراء والإبل والصيد والحليب الصافي كما وصف في القصيدة، ولكن لأن البادية في ذهنه معادل لمجتمع يسعى لأن ينهض من سباته ولكنه بقي محتفظا بالقيم الإنسانية التي افتقدها الآخر ومنها: مقاومة الظلم والفساد وحماية الضعيف ونجدة المستغيث وحماية الجار والعفو عند المقدرة والكرامة والمروءة والوفاء وطلب العلم وتقدير أهله وغيرها من الخصال التي ينشدها كل عاقل وتكون لصاحبها ذخرا ومحل فخر واعتزاز. ناهيك عن أن القصيدة جاءت ردّاً على سؤال طرحه عليه أحد الفرنسيين في أيهما أفضل، البدو أم الحضر، فيما يروي بعض المحققين. ثانياً: قلبٌ للحُب: من الطبيعي بالنسبة لأي إنسان سَوِيّ أن تجتذبه المرأة ناهيك عن أن يكون شابا في مقتبل العمر. وقد حصل هذا ل"عبد القادر"ولأنه يدرك هذا البعد الطبيعي والإنساني في الإنسان فإنه لم يَكْتمه، بل سعى للبوح بمشاعره ولم يتحرج لأن أسرته محافظة ولها سمعتها المعروفة. ولم ير في ذلك عيبا يُشوِّه صورته في أنظار الناس وهو الذي درس المصادر التراثية شعرا ونثرا ووجد الأوائل قد بثوا في مؤلفاتهم عواطف في الحب وتصوير المرأة وهي تُعَد اليوم من روائع الأدب الإنساني. ففي القصائد والمقطوعات القليلة التي أفردها للغزل على عادة الشعراء القدامى نجده لا يخرج عن دائرة القاموس اللغوي المعهود في معاني الحب. فهو مولع بمحبوبة سلبت فؤاده وتركته يهيم بكل واد: ألا قل للتي سلبت فؤادي ::: وأبقتني أهيم بكل واد وهو يحس بنار الحب مشتعلة ويبيت يرعى النجوم آرقا لعل طيفها يزوره فقد سئم بُعْدَها ولم يَعُد يطيق الفراق ويتوسل إليها أن تتكرم بلقاء يُخفِّف من حرقته ويكف عنه دموعه يقول: إلامَ فؤادي بالحبيب هتور ؟ ::: ونار الجوى بين الضلوع تثور وحتى متى أرعى النجوم مسامرا::: لها ودموع العين، ثَمَّ تفور ما يذكر بقول النابغة في إحدى اعتذارياته: كِليني لِهَم يا أميمةُ ناصبِ ::: وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ ::: وليس الذي يرعى النجوم بآيِبِ وتتكرَّر عبارات الشوق والمعاناة في كل النصوص تقريبا بمبالغات واضحة فهو يقاسي الحب ويبكي ويسهر وهي تهجره ويشكوها ويبذل روحه في سبيل لثم فيها ويغتفر العظيم لها ويخضع لها ذلة وهي تزداد تيها وتشتد في هجرها له ولكنه يبرر ذلك كله قائلا: وأخضع ذلة، فتزيد تيها ::: وفي هجري أراها في اشتداد فما الذل للمحبوب عارٌ::: سبيل الحب، ذل للمراد إنه يؤمن بذلك ويصرح به لأنه مقتنع بأنْ لا سلطان له أمام سلطان الجمال، مصدره امرأة ضعيفة وهو الذي يخاف الأبطال بطشه ويتقون بأسه. ومن عجب تهاب الأسد بطشي::: ويمنعني غزال عن مرادي وماذا غير أن له جمالا ::: تملك مهجتي، ملك السواد وسلطان الجمال، له اعتزاز ::: على ذي الخيل، والرجل الجواد سلطان الجمال يتغلب على الأبطال الشجعان ويجعلهم عبيدا، وبحكمه صار يعشق الليل ويكره النهار فالليل مجلبة السُّهاد والهموم ولكنَّ فيه أملا أن تجود المحبوبة بطيفها فيستأنس به بالرغم مما في المعاناة من أوجاع الفراق وشدة الوجد وشدة الجوى وعذاب النوى واللوعة الدائمة فهو يقول: غريق، أسير السقم، مكلوم الحشا :::حرق بنار الهجر، والوجد، والصد غريق حريق، هل سمعتم بمثل ذا؟::: ففي القلب نار. والمياه على الخد ولأنه متعلق بالمحبوب وَوَفِيٌّ في حبه فقد يرضى من كل ذلك بخيالها، ولأنه –أيضا-مقتنع من أن الحب لا دواء له كما أكد ذلك الأطباء المجربون والعارفون: سألتُ رجال الطب فأخبر كلهم :::وهم أهل تجريب وأهل ذكاء بأن سقيم الحب، هيهات، ما له ::: دواء، إذا ما الحب أصبح نائي ثالثا: قلبٌ للحُب الإنساني : كان "عبد القادر" يطارد حلما لطالما راوده منذ نشأ وشب في أسرة تتميز بانتسابها للرسول(ص) ويتوق إلى ألاَّ يخذل نسبه وشرفه علما وتقوى، أن يجتهد ويجاهد النفس ليصل إلى أعلى مرتبة بإمكان إنسان أن يصلها. ولعل الإمارة أن تكون بالنسبة إليه قد شكلت عقبة في طريقه لتحقيق هذه الغاية المنشودة. فَعَوْدَتُه إلى رحاب التصوُّف ربما كانت عودة إلى الذات المفقودة أو الضائعة، ربما كانت عودة إلى أناه. وكأنه تحرر من قيد فرضته الظروف. ظروف الأسرة الشريفة ذات المكانة المتميزة وظروف المستعمِر الغازي، وقناعة أولئك البسطاء الذين لا بد لهم من زعيم، قائد تعترف به القبائل القريبة أولا، ليعترف به الآخرون بعدها. وربما وُجد من بين البسطاء من كان أكثر شجاعة وصفاء ولكنه يأبى أن يتطاول على النسب الشريف فيرضى بأن يكون فردا في جيش القائد، يمد صدره للخنجر والسيف والرصاص من أجل أن يحيى الرمز الذي يختزل القيم النبيلة. من أشهر كتبه في التصوف كتابهُ "المواقف" ولكني أقتصر على ما ورد في الديوان مما له علاقة بالتصوف. فأطْوَلُ قصيدة في الموضوع هي التي خصصها للسيد "محمد الفاسي" مقدم الطريقة الشاذلية، الأستاذ الذي تتلمذ عليه وشرب منه الطريق كما يقول(ممدوح حقي) مُحقِّق الديوان. لم يعد الليل بالنسبة إليه فرصة لاستحضار المحبوبة، كما لم يعد الهجر والصدود والانقطاع معاناة بسبب فراق سلطان الجمال النسوي، بل إنه في واقع وحدة الوجود، حبٌّ واشيتاق من نوع آخر، وخمرة مسكرة بحثا عن السادات والأولياء وما ينجر عنه من هَمّ وضنى واشتياق وأملٌ في لقاء يُخَلِّصه من أدران الدنيا ليرفعه إلى مرتبة عليا، نُحاساً كان، فيحوله ذَهَباً. وألقى على صفري، بإكسير سره ::: فقيل له هذا هو الذهب التبر وإن الشيخ/ الأستاذ الذي له القدرة على أن يصيِّر النحاس ذهبا، هو إنسان لا يكفي أن يُمدح. فالمدح قد ينسحب على من هم أقل مكانة منه، بل إنه يستأهل العبادة ولذلك لا يتحرج" عبد القادرّ من القول عن أستاذه "الفاسي": فقبلت من أقدامه، وبساطه :::وقال: لك البشرى. بذا قُضي الأمر ثم يضيف: أمولاي إني عبد نعمائك، التي ::: بها صار لي كنز. وفارقني الفقر وصرثُ مليكا بعدما كنت ُسوقة ::: وساعدني سعد، فحصباؤنا در أمولاي إني عبد بابك، واقف ::: لفيضك محتاج. لجودك مضطر فمُرْ أمر مولَّى للعبيد فإنني أنا ::: العبد، ذاك العبد، لا الخادم الحر ومن المأثور عن قصص المتصوفة في علاقة الشيخ بالمريد أن" ذا النون المصري" قال:(( طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه)). وقد يُعاب على"عبد القادر الجزائري" في بعض شطحاته الصوفية أنه قال: أنا حق، أنا خلق ::: أنا رب، أنا عبدُ أنا عرش، أنا فرش ::: وجحيم أنا خلد أنا ماء، أنا نار ::: وهواء أنا صلد أنا كم، أنا كيفُ ::: أنا وجد، أنا فقد أنا ذات، أنا وصف ::: أنا قرب، أنا بعد كل كون ذاك كوني::: أنا وحدي، أنا فرد فلا شك أن الذين ينكرون عليه مثل هذا، إنما هم أولئك الذين يقفون عند ظاهر النص. وقد يذهبون إلى اتهامه بالكفر والزندقة. لكن الذين يدركون ثنائية الظاهر والباطن في المعرفة الصوفية وقولهم بالاتحاد أو الحلولية أو وحدة الوجود،ويدركون الجذور الفلسفية التي أنتجت لغتهم المختزلة المُشفَّرة غير المألوفة، من المفروض أن يفهموا أن هذه اللغة قد جنت عليهم فعانوا وعُذبوا وقتلوا بعدما كيلت لهم كل الاتهامات انطلاقا من التفسير العامي لأقوالهم وتأليب الدهماء عليهم من قِبَل الحُكَّام، لأن السلطة وَمَنْ تَسوسُهم لم تتجاوز ولم يكن من مصلحتها أن تتجاوز المعرفة الظاهرية إلى المعرفة الباطنية والتي تمثل حقيقة الشريعة في تأويل المتصوفين. وفي كل الأحوال فإنه في قصائده ومقطوعاته القليلة في التصوف لم يتخلص من قبضة كبار المتصوفين من أمثال "ابن عربي" و"السهروردي" وغيرهما، فهو حين يقول: أوْقاتُ وصْلِكم، عيد وأفراح ::: يا من هُم الروحُ لي، والرَّوح والراحُ إنما يستحضر قول "السهروردي" إذْ يقول: أبدا تَحِن إليكم الأرواحُ ::: ووصالكم ريْحانُها والراحُ وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ::: ستر المحبة والهوى فضَّاحُ بالسِّرِّ إن باحوا تُباح دماؤُهم ::: وكذا دماء العاشقين تُباحُ ثمَّ، ما أروع أن يُكلَّل حبُّه للإنسان من حيث هو إنسان بموقفه الخالد تجاه المسيحيين في المشرق . وهو الدور الذي لا يشرِّفه وأسرتَه وحسب، بل استمرَّ هذا الموقف النبيل نجماً يلمع في سماء الجزائر وهي تقف فرساً جامحاً على ضفاف المتوسِّط،يَصكُّ كلَّ مَن يعتدي عليه.