« رابح سبع " هو أستاذ العلوم الاجتماعية والأنتروبولوجيا، له حضور دائم ومميَّز في مجال البحث وفي الساحة الثقافية والإعلامية. لذلك عندما يُقْدم على هذه الخطوة- وهو الذي بمقدوره أن يكتب باللغة التي يُتْقِنها- فلا شكَّ أن له مبرِّراته. لكنْ لا أظنُّ أنَّ هناك مبرِّراً أقوى من كوْنها لغة التواصل والاستعمال اليومي فهي بهذا المعنى أفْصح وأقدر على التبليغ.وهو لا يخفي هذه القناعة إذْ يقول : ((اللغة الجزائرية هي لغة أُمَتْنا وبْناتْنا ووْلادنا،اللغة الي تعيَّشْنا وحْنا نعيْشوها على خاطر كبرنا بها وكبرت فينا.نفَرْحو بها ونزْهاوْ بها،نضَحْكو بها ونبْكو بها نتْكلمو على ماكْلتْنا وكسْوتْنا بها وحتى مْنين نْكونو راقدين نَحَلْمو بها))الرواية ، ص:78. غير أن هذا ببقي على المستوى الشفوي حتى في التجربة المسرحية الناجحة. فإلى أيّ مدى يمكن لهذه التجربة أنْ تنال حظَّها من المقروئية؟ اختار لروايته عنوان ((فحلة)). والكلمة ليست غريبة عن الموْروث العربي. فقد استعمل العرب الفحل وهو القويّ من كلّ حيوان مثل فحل الإبل وغيره.وهو المكتمل من الرجال . وتعني في الفقه أيْضاً ذَكَرَ النخل وغير الخصي.وقيل شاعرٌ فحْل وشعراء فحول.فهي أصلاً ضد الأنثى فلم تأتِ الكلمة مؤنَّثة في مجتمع ذكوري.ثم لم يعُد المعنى المتداول محصوراً في الجنس.بل صار مقابلاً في العامية لقوْلنا" فلان راجل" وفلانةّ"فحلة".أيْ امرأة تتميَّز بشخصية قوية لا تقلُّ قيمة عن رجل له نفس الخصال.ما يسمح بالتمييز بين رجل ومجرَّد ذكَر وامرأة وأنثى. تعالج الرواية واقع الصراع في المجتمع الجزائري بين أنصار الفكر الظلامي وأنصار التنوير. فإذا "فحلة" تتولَّى قيادة مجموعة تدافع عن حرية التعبير والتفكير لتقاوِم ممارسات لا تلتزم لا بالدين ولا بالقانون، وبينما تسعى "فحلة" وجماعتها نساءً ورجالاً إلى معالجة الأمراض بواسطة الغناء والموسيقى وسائر أنواع الفنون. يقوم المجرمون من عسكر الظلام بالاغتيالات . لا أريد أن أتعرَّض إلى بنية النص ولا إلى التفاصيل، وإنَّه وإن احتوى على قدْر من التشويق إلا أنَّ الخطاب قد اتَّخذ منحى أقرب إلى الكتابة الصحفية التقريرية المباشرة،إنَّما يهمُّني أنْ أتساءل عن هذه التجربة اللغوية في ذاتها.فأتوقَّع أنَّها ستُواجَه بموقفيْن يظهران متعارِضيْن غير أنَّهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة. الأوَّل: سيكون رافضا مبدئياً، لأنَّه يرى أنَّها محاولة ضد اللغة العربية دون أنْ يطَّلع على النص، والثاني سيُرحِّب بها ويصفِّق لها لأنَّ لديْه حساسية ضد العربية ولو لم يقرأ النص أيْضاً.فكلاهما يصدران عن موقف إيديولوجي أساساً، فلا يفكِّر أيٌّ منهما في مصير هذه التجربة بموضوعية. فأمَّا فيما يخصُّني فأرى أن المواطن الجزائري اليوم ، إذا هو أقبل فعلاً على مطالعة الكتاب في زمن تعدَّدت فيه وسائل التواصل وكثرت الانشغالات وهذا نادرٌ جدّاً،فإنه إمّا أن يقرأ بفرنسية خالصة أو بعربية خالصة .ربما تكون العامية في الجزائر من أقرب اللهجات إلى العربية الكلاسيكية ولو تسرَّبت إليها مفردات من لغات أجنبية. ولعَّل ذلك ما حمل (البشير الإبراهيمي) على أن يكتب عن ((بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر)).إلا أنها عندما تُكتب يواجه فيها القارئ صعوبة أكيدة. لقد اضطرَّ الكاتب إلى ضبط الكلمات بالحركات لأنه يدرك صعوبة التهجِّي لو بقيت مُجرَّدة منها. ولكن-رغم ذلك- وجدتني أتعثَّر كثيراً ولا أستطيع أنْ استرسل في القراءة كما في العربية التي دَرَسْناها. وأحْسَسْتُ كأنِّي أقود سيارة واصطدم بكثير من العقبات.قد يُفسَّر هذا بأنه ((لكل امرئ من دهره ما تعوَّدا))، ولكن كم يلزمني من الوقت لأكتسب عادة أخرى جديدة ونحن في عصر السرعة؟ ! ثمَّ حاولت أنْ أحوِّل الفقرة الأولى إلى "الفُصحى"فوجدتُها لا تختلف عنها في جوهرها.لأن الألفاظ الواردة فيها هي من أصول عربية بخلاف المواضع التي تكثر فيها الألفاظ الأجنبية.فالتعديل لا يتعلق إلا بمراعاة القواعد وتغيير بعض الكلمات منها:(القوَّال-لكْحل- البنَّة- الزين) ووضعت مكانها(المدَّاح-السواد-المذاق-الجمال) ليس لأنها غريبة عن العربية بل،لأن هذه الأخيرة متداولة أيْضاً ويسهل نطقها في السياق ولأن قارئ العربية يفهمُها ولو لم يكن جزائرياً.. فهو يقول مثلاً: ((حَتَى حْيوطْ البقبرة حَزْنين. والغيام لابس لَكْحَل اليوم دْفينة القوَّالْ لي غدْروه عَسْكر الضلام. مات القوّال وهو يَلْغى بلحب والزين. كان ديمة يخروج وكتاب في يديه. وقوس قزَحْ في عينيه. كل صباح يخروج يصيَد ألوان الكلمات. ويقول كل كلمة عندها لون وكل كلمة عندها بنَّتْها.كل كلمة عندها حياتْها بصَّح عسكر الظلام يكَّرْهوا اللون ويكَّرهو الذوق ويكرهوا الحياة ويكرهوا حتى الضوْء الي يسكن العينين. هذا علاه يتْسمَّ عسكر الظلام يعَشْقو لكْحل)).الرواية، ص:9. وبعد التعديل أصبحت الفقرة كالتالي: ((حتى حيطان المقبرة في حُزْن.والغيام لابسٌ السواد.اليوم يُدْفن المدَّاح الذي غدَره عسكر الظلام.مات المدَّاح وهو ينادي بالحب والجمال. كان دائماً يخرج وكتابٌ في يديْه. وقوس قزَحْ في عينيه.كل صباح يخرج يصطاد ألوان الكلمات. يقول كل كلمة لها لوْن وكل كلمة لها مذاقها.لكل كلمة حياتها. لكن عسكر الظلام يكرهون اللون ويكرهون الذوق ويكرهون الحياة ويكرهون حتى الضوء الذي يسكن العينيْن.لهذا يسمَّى عسكر الظلام إنهم يعشقون السواد. أعتقد أنه حتى ولو كُتب النص بالعامية وبحروف لاتينية ، فإنَّه سيصدم بالمشكل نفسه.إذْ تستعصي القراءة. وعِوَض أن يسترسل المرء في القراءة يضيع منه وقت كثير في فكِّ مُغْلقات المفردات والجمل تماماً كما يحدث مع بعض الكتابات المنتشرة في وسائل التواصل. يكون مفهوماً ومقبولاً عندما يلجأ بعض الكُتَّاب إلى إدراج العامية في نصوصهم ، مفردات أو أمثالاً شعبية حتى لا تفقد دلالتها، ولكن ألا يفهم الإنسان الجزائري كلمات مثل: (الفراشات والشخصية القوية والحي الجامعي والنقابة والنادي والكتاب والرصيف حتى يستعمل الكاتب بدلها:«فرططويات-كاركتار فور-لاسيتي أونيفارسيتار-السانديكا-الفوايي-الليفري-التغوتواغ)؟ ! إنَّ اللغة العربية نفسها استغرقت زمناً طويلاً قبل أنْ توضع قواعدها وتصبح صالحة لأنْ تُدرَّس في الكتاتيب والزوايا والمدارس.ناهيك عن أنَّ تاريخها الأدبي الغنيّ ولَّد عبر الزمن تراثاً من البلاغة والجمال وعوالم التخييل. فإذا كان الكاتب يؤمن بأن العامية سيتحقَّق لها ذلك لأنها هي لغة التواصل الجزائرية، أو لأنَّها نجحت في التجربة المسرحية. فهي في الكتابة الإبداعية تحتاج إلى مراس طويل. وربما سننتظر قروناً حتى يظهر مختصُّون في علوم اللغة كي يستخرجوا قواعدها وتحلَّ محل لغات أخرى. أليْس من الأسهل جَسْر الهوَّة بين "الفصْحى" والعامية؟وتبسيط اللغة الكلاسيكية من غير أْنْ تسقط في السوقية والابتذال؟خاصة وأن كثيراً من النصوص الأدبية المكتوبة باللغة العربية لا يجد القارئ عائقاً في قراءتها إلا ما تعلَّق بالغموض الذي قد يكون من مظاهر الإبداع وليس ضرباً من الإبهام. ثم إن أية لغة تُعدُّ رسمية أو "عالِمةّ ظلَّت دائماً تزاحمها لغة شعبية أو لهجات، وهي ظاهرة طبيعية يحكمها التفاعل تأثُّراً وتأثيراً، والإبداع يغرف من هذا المخزون الثري وفق الضرورة التي تُمليها طبيعة الكتابة الفنية.إن التبادل بينها مستمرّ عبر العصور، والتمايز قائم من بعض الوجوه.فالشعر الملحون سُمّي ملحوناً لأنه لا يخضع لقواعد العربية "الفُصْحى"، لكن ذلك لا يمنع كونه فنّاً قائماً بذاته وهو لا يختلف عن الشعر العربي في بدايات نشأته قبل وضع قواعد اللغة واكتشاف أوْزانه.