تعتبر الأديبة مي زيادة (1886_1941 ) نموذجا للمرأة المثقفة التي أسهمت في النهضة العربية عن طريق الأدب والصحافة . عند تواجدها بمصر ، أسست صالونا أدبيا ، وهو عبارة عن ندوة أسبوعية تقام كل ثلاثاء ببيتها بالقاهرة، استقطب صفوة كتاب وشعراء النهضة العربية. فكان يجمع في ضيافتها على مدى عشرين سنة كل من : طه حسين ، العقاد ، لطفي السيد ، مصطفى صادق الرافعي ، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم ، خليل مطران ، سلامة موسى ، الأمير شكيب أرسلان ، داود بركات، أنطوان الجميل، مصطفى عبد الرزاق، والشاعر إسماعيل صبري الذي تغنى به قائلا : روحي على دور بعض الحي هائمة كظامئ الطير تواقا إلى الماء إن لم أمتع بمي ناظري أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء. كانت مي زيادة تنشر مقالاتها في جريدة والدها إلياس زيادة "المحروسة" وفي جريدة "الأهرام"، ولها عدة مؤلفات، نذكر منها : المساواة ، ظلمات وأشعة ، كلمات وإشارات تناول الكثير من الكتاب سيرتها وتطرقوا لأعمالها. على رأس هؤلاء الأديبة السورية سلمى الحفار الكزبري ، صاحبة رواية "عينان في اشبيلية " وكتاب " عنبر ورماد " الذي تناولت فيه سيرتها الذاتية. ولها كتاب آخر بعنوان " نساء متفوقات "، قامت من خلاله بالبحث في تاريخ النسوة الرائدات . قضت هذه الكاتبة ستة عشر عاما من عمرها في البحث في أعمال مي زيادة ونشاطاتها في الثلث الأول من القرن العشرين. واهتمت بكتابة سيرتها وأجْرَت مقابلات مع جميع الذين عاصَرُوها في لبنان وسوريا ومصر، وحتى المستشرقين الإيطاليين الذين تتلمذت لهم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة . كما ألقت الأضواء على مراحل عطائها الأدبي، وعلى المأساة التي هزّت كيانها في السنوات العشر الأخيرة من عمرها، باتهامها بالجنون وإلقاء الحجر عليها ظُلما وبُهتانا . وقد خصصت لسيرة حياتها كتابا سمته "مي زيادة أو مأساة النبوغ" في جزأين .وجمعت رسائلها التي كانت مبعثرة ما بين لبنان ومصر ونشرتها في كتابين هما : " مي زيادة وأعلام عصرها : رسائل مخطوطة لم تنشر 1912_1940 "، " الشعلة الزرقاء : رسائل جبران خليل جبران إليها ما بين 1912 _ 1931 " الذي تُرجم إلى اللغات : الإنجليزية ، الفرنسية ، الاسبانية والايطالية . أيضا ، جمعت كل ما لم ينشر لمي زيادة من مقالات وخطب ونشرت كل ما عثرت عليه في كتاب بعنوان" كلمات وإشارات 2 " ، وهو الملحق لكتابها الأول بهذا العنوان الذي أشرنا إليه أعلاه ،والذي نشرته لها دار الهلال القاهرية في حياتها . والجدير بالذكر أن الروائي الجزائري واسيني الأعرج، قد حاول ، لمدة تفوق السنة ، تتبُّع ولمس تفاصيل مأساة "مي زيادة " بمساعدة الجامعة الأمريكيةببيروت .وكتب عنها رواية أسماها " ليالي إزيس كوبيا " ،وهو الاسم المستعار الذي كانت تنشر به أشعارها بالفرنسية . لم يتقبل المجتمع الذكوري هذا النبوغ وهذا النجاح .فكان الذين من حولها من رجال الفكر والأدباء يرون فيها الأنثى الجميلة . وكانوا يتودّدُون إليها . فطه حسين غازلها بكلام جميل .العقاد أعلن لها عن حبه، ومصطفى صادق الرافعي وضع دموعه على ورقة وبعثها لها. والكثير منهم اقترح عليها الزواج شرط أن تبقى في البيت ، بينما ظلّت هي ترفض فكرة الزواج لأنها أدركت في وقت مبكر أنها خلقت لتكون أديبة . حتى جبران خليل جبران الذي أحبته بصدق وتمنت القران به، خيّب أملها وكسر خاطرها ، فقد لمح لها في إحدى رسائله لها أنه ليس طالب زواج . ولما رفضت طلباتهم السرية للزواج ، انفضُّوا من حولها وذهب كل واحد في اتجاه . دبر لها ابن عمها الطبيب "جوزيف زيادة" وأفراد من عائلتها مكيدة واتهموها بالجنون رغبة في طمس شهرتها والاستيلاء على ممتلكاتها، فتمّ الحجْرُ عليها وعلى أموالها، فاقتديت إلى مستشفى العصفورية للأمراض العقلية ، وذاقت فيه كل أنواع التعذيب الجسدي .وبقيت هناك بالقوة مدة تجاوزت السبعة أشهر. ودوّنت في يومياتها : "ليالي العصفورية" كل تفاصيلها اليومية والعذاب التي ظلت تتعرض له .لكن ضاع هذا النص . فلم يدافع عنها أحد من المقربين إليها .فطه حسين دخل في حلقة المؤكدين على حالة انهيارها وجنونها .غادر العقاد والرافعي جلسات الثلاثاء . وهنا تدخل الأمير خالد الجزائري ، مع بعض الشرفاء من رجال الدين والفكر ، وبذل جهودا لإنقاذ مي زيادة من مستشفى العصفورية للأمراض العقلية في بيروت ونقلها إلى مستشفى الدكتور "إبيز" للاستشفاء . ثم ، هو وزوجته الأميرة زهراء وشقيقه الأمير مختار وزوجته الأميرة سامية، استأجروا لها شقة في محلة أبي طالب في بيروت أقامت بها . ومن هذه الدار دعتها جمعية العروة الوثقى لإلقاء محاضرة في قاعة " وست هول " بالجامعة الأمريكية أمام أعضاء المحكمة التي كانت تنظر في قضية الحجر عليها، وذلك لرفضها المثول أمام المحكمة التي تطوع للدفاع عنها القانونيان الشهيران "حبيب أبو شهلة" و«بهيج تقي الدين" .وكان عنوان محاضرتها يومئذ "رسالة الأديب إلى المجتمع " . وكانت صرخة مُدويّة في وجه التعدي على كرامة الأديب .وقد أكدت للجميع سلامة عقلها وتوازنها بالرغم من تعبها وإنهاكها وقلقها .مما أسفر عن إلغاء الحجر عليها . لقد وقف الأمير خالد إلى جانب الأديبة مي زيادة ، وهي مسيحية أرثوذوكسية، لما أُدخلت مستشفى الأمراض العقلية ظُلما ، كما فعل قبله جدّه الأمير عبد القادر لما دافع عن المسحيين بدمشق سنة 1860 . لقد فضلت مي زيادة ، بعد هذه المحنة ، العُزلة في بيتها ولم تستقبل أحدا إلا رجال الدين الذين منحوها فرصة الخلاص من الأثقال التي كانت على عاتقها. قال لها ، ذات يوم ، طه حسين وكأن شيئا لم يكن،"نريد أن نراك ونطمئن عليك يا آنسة مي" ضحكت ، وأجابته بمرارة، "الآن فقط تذكرت . إذا أردت ،أن تراني عليك أن تتحول إلى قس .هو الطريق الوحيد إلي ".