أحاصر نفسي بالكتب، فحيثما ألتفت أجد كتاباً، أو مجموعة كتب من كل الأصناف والأنواع ، أعتبرها حتى الآن مدينتي الفاضلة.. هنالك كتب قرأتها منذ سنوات بعيدة، ولكن مع ذلك لا أستطيع فراقها، كأنها قصص حب لا تنتهي أو تموت، كأنها علاقة خالصة/ خالدة، حب لم يولد ليفنى، وغرام وُجد ليدوم ، فكرت في الكتب على أنها تشبه النساء الخطرات اللواتي يشعلن بال العاشق، ويحرقن قلبه، ويحدثن فيه ثورة داخلية عميقة فتتحول الحياة فجأة من روتين ممل، يمر بضجر واستلاب، ليصبح وقتا ثميناً، ومركزاً على الجوهري، والأساسي، يُصبح للحياة معنى، وللوجود هدف، وللطريق مخاطر كثيرة لكن ما هي الحياة إن لم تكن معرضة للهزات العنيفة التي تصنع شخصية المرء وتنضج وعيّ الإنسان.. هنالك كتب أنهيت قراءتها منذ شهور فقط ، قرأتها في تجربة أليمة، كنت بحاجة إلى سند روحي ومعنوي طوال فترة فقداني لوالدي العزيز، حيث جاء موته فاجعاً ومؤلما رغم أنني كنت أنتظر ذلك الرحيل، وأبعده عن خاطري، فقرأت خلالها كل ما وجدته بحوزتي من كتب التصوف التي وجدت فيها الشفاء والعلاج والطهارة والصدق والحب والاشتياق . اكتشفت أن هنالك كتباً لا أاقترب منها إلا وأنا مسافر، أحملها معي في حقيبة اليد، وأترك الكتاب يفعل مفعوله ، روايات الأمريكي بول أوستر طالعت معظمها وأنا في الطائرة، لكأنني أشعر أنها روايات سفر، أو تدعوك لتسافر معها، أو هي بذاتها تحمل شيئا من الرحيل والحنين والاقتلاع من مكان ما نحو مكان آخر، هي نفسها مغرية بهذا الانتقال من عالم إلى عالم جديد، ومن كان له إطلاع على روايات هذا الروائي المتميز " أوستر" لا شك سيفهم كلامي بسرعة فداخل روايته يتنقل بك من أرض الواقع إلى أرض الخيال، وهو يحب التلاعب في رواياته ، فلا تعرف إن كنت تقرأ رواية واحدة، أو عدة روايات، لقد ابتدع أوستر طرق فنية جميلة لتشعر معه بالتيه والصداع حتى أنه في " ثلاثية نيويورك" الشهيرة تجد أكثر من بول أوستر في الرواية، وهذا واحد من تقنياته لخلق اللُبْس بداخلك .. بينما روايات أخرى تشعرني بالحاجة إلى مطالعتها وأنا مستقر في مكان ثابت ووقت معلوم، مثل روايات الكولمبي غارسيا ماركيز " مئة عام من العزلة " أو خريف البطريرق" أو" الحب في زمن الكوليرا" عند ماركيز أنت بحاجة إلى حاسة الانتباه فكل أعماله هي انسكلوبيديا خيالية واقعية، يحتفل فيها بالخيال إلى أبعد مدى، ولكن من قال أن الخيال غريب عن الواقع، أو هو نفي له . إن الواقعية السحرية ليست إلا سحر الواقع الذي نعيش فيه بكل ما فيه من توهمات وأساطير وهذيانات البشر عبر الأزمنة والتواريخ، وحتى التشيكي ميلان كونديرا صاحب رواية "المزحة" و" كتاب الضحك والنسيان" و" خفة الكائن التي لا تحتمل" لا استطيع قراءته وأنا متنقل، يجب أن أكون في مكان ثابت، وكل ما في من حواس مركزة على ما يقوله ويكتبه، صحيح "كونديرا" لم يعد كما كان في سنوات خلت نجما روائيا وهو على العموم يرفض النجومية، لا يظهر كثيرا على شاشات التلفزيون، يتجنب الصحافة والإعلام، ولكنه يكتب بطريقة مشاكسة وفيها إصرار على رؤية العالم من زاوية كافكاوية ، أي من زاوية النقد والتشاؤم. أغلب الكتب التي تحاصرني في البيت ليست روايات، وإن صرت في السنوات الأخيرة أكثر ميلا لقراءة الرواية على عكس السنوات البعيدة حين كنت أغرف من كل بحيرة ما أستعذبه من ماء لذيذ، كانت كتب الفلسفة تأخذ حيزاً وافراً من مكتبتي، وهي لا تزال في الحقيقة تمارس عليّ غواية مدهشة، وأنا لا أطالع كتب الفلسفة كما يطالعها دارس الفلسفة مثلا، بل بطريقة حرة وتفاعلية وشعرية ، أحب اللغة التي يكتب بها الفلاسفة على اختلاف طرق كتابتهم أيضاً، فهنالك بالتأكيد فرق بين فيلسوف كنيتشه يمكن قراءة نصوصه كقصائد شعرية فلسفية جميلة وطريقة كانط، أو هيجل المدرسية التعليمية، أو هيدجر وجورج باطاي..أعتقد أن الأسلوب مهم عند الفلاسفة كما هو عند الأدباء تماماً ، وهنالك تلاقح وتلاقي كبير بينهما ، في النهاية لا شيء يُسعد الإنسان غير أن يتشكل وعيّه في القراءة ويكتمل نضجه بين صفحات الكتب ، وهو يطويها بلذة المؤمن أثناء الصلاة قد لا تخرج من عالم الكتب ناجحا مادياً غالب الوقت، فهي تفلسك بالتأكيد لكن ما أجمل غنى الروح ، وما أعظم أن تعيد الاعتبار لإنسانيتك كقيمة معنوية ، وليس كقطعة مادية ..