تعتبر فرندة الواقعة بولاية تيارت ، تحفة أثرية عريقة لازالت شاهدة على عصور غابرة وحضارات متعاقبة ، حيث تتسم هذه المدينة بجمال هندسي خلاب وسمة فنية أصيلة ترجمتها تلك المعالم التاريخية النفيسة والقطع الأثرية التي تعود إلى العصور الغابرة من تاريخ الإنسانية ، على غرار الحفريات التي قام بها الملازم " فور" عام 1883 ، والتي تم خلالها استخراج عدة أدوات هامة منها الحلي ، الأقراط ، الخلاخل ، العقود ، والأواني الخزفية ذات الرسومات والأشكال الهندسية التي لا تزال موجودة بمنطقة القبائل ، إلى جانب ما تم العثور عليه في نهاية الثلاثينيات من قبور مربعة الأضلاع ذات فتحة عمودية ، اتخذها بربر المنطقة أضرحة لدفن أمواتهم ، وذلك بقرية " القواير" بمدينة فرندة ، دون أن ننسى البناءات التي تعود إلى العصور القديمة التي تم بناؤها قبل القرن الأول قبل الميلاد حسبما أكده " سولينياك "، يضاف إلى هذا أن فرندة كانت تشكل ومنذ استيلاء الرومان عليها أي ابتداء من القرن 72 قبل الميلاد ، أحد الحصون التي أقامها هؤلاء ضمن ما يعرف بخط " الليميس " الممتد من الحدود الشرقية إلى الحدود الغربية من الجزائر ، فرندة كانت منطقة استقرار وعبور تصل بين مختلف بقاع الجبهة الغربية للوطن حتى بين الشمال والجنوب، ومر بها الكثير من العلماء و الباحثين الذين لا يزالون يحنون إليها ، فكتب عنها ابن خلدون في مؤلفه، وأبدع في وصفها جاك بارك واجتهد في التقاط الصور ودراسة طبيعتها العالم والفنان والمهاجر، وأثرى معالمها الشاعر بوصف أهلها وأرضها، لكن للأسف أنها وضعت في طي النسيان والإهمال منذ زمن طويل رغم احتضانها لأسرار بالغة الأهمية .. فسيفساء رومانية عريقة وفي هذا الصدد يرى الباحث والدكتور " محمودي عمر " أن نشأة مدينة فرندة تعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني ميلادي ، وبالضبط إلى عام 172 م ، وهذا بالفعل ما يتفق والأدلة المادية التي أشرنا إليها آنفا ، فهي و بالإضافة إلى كونها تقع على هضبة عالية ؛ فإنها كانت محاطة كما تشير بعض المصادر بسور لتعزيز حمايتها وأمنها من أي طارئ خارجي ، وهذا في مرحلة لاحقة من عمر المدينة التي فقدت الكثير من معالمها الرومانية ، ويسود الاعتقاد أن مدينة فرندة وفي هذه المرحلة بالذات أقيمت على أطلال المدينة الرومانية القديمة التي لم يبق منها أي أثر يذكر ، ويطلق على المدينة الأثرية "مدينة ابن خلدون " ، و " مدينة جاك بارك " ، وهي الصروح التي بناها الرومان للمدينة الأثرية الواقعة على بعد 50 كيلومترا من ولاية تيارت . تشكل مدينة فرندة مزارا لعديد السياح الجزائريين والأجانب الذين يحجون إليها سنويا لاكتشاف معالمها والوقوف على ما تحمله من روائع فنية خاصة، عملت الرومان على تجسيدها عمرانيا عبر العقود والقرون ، حيث يكتشف هؤلاء مدى دقة اختيار هذه المنطقة التي كانت في القرون الماضية مدينة رومانية لا يزورها رجل مفكر، عالم، شاعر أو مسؤول إلا وطلب زيارة معلمي قرية تاوغزوت ، لجدار و التات ، أو منطقة "جميلة " الأثرية التي تحتوي فسيفساء تاريخية حسنة التنسيق والزخرفة، وشوارعها المحفوفة بالأروقة، حيث يقع الجزء القديم من المدينة في ناحيتها الغربية المطلة على سهول " وادي التات " التي تتميز عن بقية أجزائها الأخرى في نمط العمران وشكل المساكن والأزقة ، فالمساكن التي تمتد على طول المرتفع متماثلة ، وجدرانها المبنية بالطوب لا تكاد ترتفع عن الأرض إلا بمتر أو أقل ، وجل سقوفها وإن كانت حاليا بالقرميد ، فهي لم تكن في وقت مضى إلا من " الردمة " أو " الغرسة " اللتان تعنيان عند العامة الطين الممزوج بالقش أو التبن، أما عن طرق هذا الحي فإنها عبارة عن أزقة أو دروب ضيقة ، ومنها استمد الحي تسميته فيقال " حي الدرب "، ومنه " درب زواوة " المعروف حاليا ، وعلى العموم فإن أزقة هذا الحي لا تختلف عن أزقة القصبة بالجزائر العاصمة أو تلمسان وغيرهما من المدن القديمة . القصبة العتيقة و الباب الكبير تشكلت قصبة فرندة عبر العصور ، وكانت تتسع لجميع القبائل والبطون التي استقرت بالمنطقة وزيادة في تحصين المدينة وحمايتها من المغيرين عليها في طل الاضطرابات التي عرفتها الناحية ، فقد عمد أهلها ومنذ بداية نشأتها إلى إحاطتها بسور أو جدار أقامه هؤلاء حولها ، ويعود ذلك إلى الفترة التي استوطن فيها بنو هلال المنطقة ، ذلك أن السور المذكور يكون قد هدم بعد مقدم هؤلاء بنحو قرن من الزمن أي في حدود القرن 12 ميلادي ، يتخلل هذا السور مجموعة من الأبواب منها الباب الكبير ، باب التحت ، باب بوعرارة وباب السوق ، ومن بين هذه التسميات التي لا زالت متداولة بين الأهالي لحد الساعة " الباب الكبير "، ولعله وصف بهذا ، كونه يمثل المدخل الرئيسي للمدينة ، وكانت هذه الأبواب الأربعة مرتبطة بقلب المدينة " حوش ربِّي " بواسطة شبكة من الأزقة الضيقة التي تؤدي في الوقت ذاته إلى مسجد القصبة ، ولعل ما يستوقفنا هنا عبارة "حوش ربي " ، فالحوش كما تقول معاجم اللغة العربية ما حول الدار ، أو ما يحيط بها من مساحة ، وتمثل المجموعة السكنية داخل القصبة سلسلة من المباني المتلاصقة الممتدة على طول السور الذي يحمي المدينة المحاطة ببستان واسع " جنان أولاد محاية " ، " نسل الشرف " ، و" مقيل البقر" ، و " مقيل " كلمة عامية مشتقة من قال ، يقيل ، قيلولة ، وهي النوم عند الظهيرة ، وقد ارتبطت بالبقر للدلالة على المكان الذي كانت تقيل فيه هذه الأخيرة في فصل الحر ، أما عن سكان قصبة فرندة القديمة فهم من أجناس مختلفة ، حيث يقيم كل جنس بناحية من نواحي القصبة ، لدرجة أن دروبها أصبحت تنتسب إلى المقيمين بها ، وتسمى بأسماء القاطنين بها ، فهناك درب الشرفة ،أولاد سيدي عمر" ، درب زواوة ، درب اليهود ودرب الغواطيين الجنوبيين، كل هؤلاء أدخلوا مدينة فرندة مرحلة جديدة من تاريخها ؛ إذ وبمجيئهم عرفت هذه الأخيرة تغيرات كبيرة وتأثر أهلها بالوافدين الجدد ، وقلدوهم في مختلف مناحي الحياة ، وكان هذا التأثير باديا بشكل جلي في الناحية الدينية والعمرانية ، لأن سكان المنطقة شرعوا تدريجيا في التخلي عن المساكن البدائية ، ودخلوا مرحلة إقامة المساكن الحضرية للاستقرار ، ومن هذه الأخيرة تشكلت " قصبة فرندة " التي يذكرنا شكلها بالمدن التي أقيمت و شيدت على مرفق دفاعي ، وعلى إثر حركة نزوح القبائل في اتجاه المنطقة عبر العصور ؛ وبهذا دخلت المدينة مرحلة جديدة من تاريخها ، حيث عرفت توسعا كبيرا في نسيجها العمراني ، إذ ازداد عدد المساكن بازدياد عدد الوافدين عليها سواء داخل أسوار المدينة أو خارجها ، وعلى مر الأيام أصبحت القصبة المعروفة حاليا بالباب الكبير أو حي سيد الناصر نسبة إلى الولي الصالح الذي حج واستقر بالبقاع لفترة ، وزار القدس وعاد إلى منداس بولاية غليزان ، ثم استقر بفرندة في مطلع القرن الثامن الهجري ، وبها أسس المسجد المنسوب إليه . وبهذا فإن القصبة القديمة لا تشكل إلا جزءا من المدينة الحالية، وكان لهذا التوسع أثره السلبي على المدينة القديمة، حيث فقدت وبحكم الترميمات التي أدخلت على مبانيها أبرز معالم المدن القديمة ، إذ مال قاطنوها إلى إقامة مساكن لائقة تتماشى والنمط المستحدث بعد مقدم المعمرين ، يستقر تاريخ هذه المنطقة في قلب هذه الالتواءات التي أوجدت منحدرات اتخذتها الإنسان منذ عصور طويلة مستقرا له ، فتضم انحرافات تمتد إلى الجنوب ، حيث سهول " لتات " المجاورة للجبال منها المتفرقة كالجبل الصغير والكبير ، وسلسلة جبال " القعدة " التي تعرف مساحات غابية في شكل أدغال ، أما في الشمال والشرق يظهر تباين واضح لالتواءات تخترقها مساحات سهبية كانت تشكل عاملا قويا للاستقرار، فاتخذ الإنسان من مناطقها الإستراتيجية مركزا للمراقبة والتحصن، فالمسلمون أنشأوا عليها قديما رباطات لتعليم القرآن ونشر الإسلام وحماية كل المنطقة على مسافات بعيدة من أي معتد على أهلها، وكان هذا في العصور الوسطى، أما في العصور القديمة فقد شهدت تمركز سكان فنيقيين ، وندال ورومانيين ، والآثار المتبقية بها شاهدة على عراقة هذا الموروث العمراني والحضاري ، وفي العصر الحديث أي سنتي 1843 و 1850 استغل الاستعمار الفرنسي هذه المكانة الإستراتيجية، وأقام بها ثكنة عسكرية، وتمركز بها المعمرون المدنيون ، وأطلقوا عليها اسم " البلدي المختلطة "، حتى أصدر المرسوم الفرنسي في 31 ديسمبر 1957 والمعروف بقانون الإطار لتصبح مدينة فرندة دائرة.