فرنسا مثلها مثل ألمانيا مع النازية , سيبقى تاريخها الاستعماري لعنة تقض ضميرها الجمعوي على مدى الزمن , و لعل من أشد الأشواك وخزا لهذا الضمير , تلك المجازر الرهيبة التي نفذها زبانية الاستعمار الفرنسي ضد الشعب الجزائري الأعزل , منذ وطئت أقدام الجيش الاستعماري أرض الجزائر و إلى أن غادها مذؤوما مدحورا بفضل تضحيات جسام قدمها الجزائريون بجميع فئاتهم الاجتماعية , و منهم فئة المهاجرين المقيمين في فرنسا الذين دفعوا ثمنا باهظا ذات 17 أكتوبر 1961 بباريس , غداة قمع البوليس الفرنسي بوحشية بالغة , مظاهرات سلمية نظمها الجزائريون احتجاجا على حظر التجول الذي فرضته عليهم محافظة الشرطة بباريس دون سواهم من الجاليات المهاجرة الأخرى . و اليوم تحيي الجزائر الذكرى ال55 لهذه المظاهرات التي اصبح تاريخها يوما وطنيا للهجرة . و لترسيخ هذا الحدث التاريخي الهام في ذاكرة الجيل الصاعد , لا بد من العودة كل عام إلى و قائعه معتمدين في ذلك على شهادات من عايشوا الحدث و على كتاباتهم . و لكن قبل ذلك لابد أن نشير في البداية , إلى أنه في 17 أكتوبر 1961 , كانت ثورة أول نوفمبر توشك على إكمال 7 سنوات كاملة من الكفاح المسلح المرير , و خلال هذه المدة الطويلة , كانت الثورة التحريرية قد حققت عدة انتصارات و على كافة الأصعدة . إذ تمكنت على الصعيد العسكري من إفشال كل الخطط الجهنمية التي نفذها الجيش الاستعماري للقضاء على الثورة , و توصلت إلى فرض سيطرتها على عدة مناطق من الوطن , بل و استطاعت فتح جبهة الصحراء مع نهاية 1957 , كما استطاعت نقل العمليات الثورية إلى قلب فرنسا ذاتها و لا سيما عام 1958 . و على الصعيد السياسي , أعلنت الثورة عن عن ميلاد الحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1958 , كما تسببت في الأزمة السياسية الفرنسية التي أدت إلى سقوط الحكومات الواحدة بعد الأخرى , قبل أن تجبر السلطات الاستعمارية المتعجرفة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات . كما تمكنت الثورة على المستوى الدبلوماسي من كسب الرأي العام الدولي لصالح القضية الجزائرية ومن ثم تدويلها . و بطبيعة الحال , فإنه مع كل انتصار كانت تحققه الثورة الجزائرية كان الحقد يكبر في قلوب غلاة الاستعماريين على كل ما هو جزائري , لينفجر في أول فرصة في شكل مجزرة كالمجزرة التي أعقبت مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بباريس . و هي المظاهرات التي جاءت احتجاجا على كل التعسفات و الاعتداءات و التمييز العنصري الممارسة ضد الجزائريين المهاجرين , حيث كانت الشرطة الفرنسية تقتحم منازلهم في أية لحظة , وتمارس أبشع أساليب التعذيب على بعض العمال المشبه في تعاملهم مع الأفالان , او في كونهم عصاة متمردين , لرفضهم أداء الخدمة العسكرية تحت العلم الفرنسي , أو لمجرد كونهم جزائريين . بل الكثير منهم تعرضوا للتصفية الجسدية بالقمع والاغتيال الجبان . و قد أشار الطيب بلولة في كتابه "الجزائريون في فرنسا" إلى حالات من الاغتيالات اليت ارتكبتها محافظة الشرطة بمساعدة الحركى على مستوى الدائرتين 13 و 14 بباريس . و لكن تبقى الشعرة التي قصمت ظهر الجزائريين المهاجرين هو القرار الاستفزازي الذي اتخذه محافظ الشرطة بباريس موريس بابون بأمر من مسؤوليه , و اعلن عنه يوم 6 اكتوبر 1961 , والمتمثل في فرض حظر التجول على الجزائريين في باريس و ضواحيها من الساعة الثامنة مساء إلى الخامسة والنصف صباحا , و غلق المقاهي و الحانات و المطاعم التي يتردد عليها الجزائريون بعد الانصراف من العمل , و كذا منع التجمعات و الاجتماعات , على أن تقدم رخص للعاملين ليلا , وهي الرخص التي لم تكن الشرطة الفرنسية تعترف بها , وكانت تنكل بأصحابها و تلقي بهم في نهر السين . * نهر السين شاهد على جرائم بابون و قد بررت السلطات الفرنسية قرار حظر التجول "التمييزي" , بزعمها أن مناضلي الأفالان في فرنسا قاموا بأعمال عنف استهدفت اغتيال شرطة المرور و الحركى و كذا حرق بعض المشآت الاقتصادية . و أيا كانت المبررات فغن قرار حظر التجول لم يكن في صالح الجزائريين , ولا في صالح الثورة , لأنه يشل النشاط السياسي للمناضلين , الذي كان يتم غالبا بعد ساعات العمل , ويعرقل عملية جمع الأموال و الاشتراكات لتمويل الثورة . فضلا عن أن القرار اتخذ طابعا عنصريا كونه خص الجزائريين دون سواهم من المهاجرين , في دولة تغنت دائما بانها مهد الديمقراطية و الحريو والمساواة و احترام حقوق الإنسان ... و لهذا رفض الجزائريون المهاجرون هذا القرار , و ابدوا رفضهم هذا بمظاهرات العاشر أكتوبر , التي شاركهم فيها التجار المغاربيون في فرنسا الذين أغلقوا محلاتهم تضامنا مع المهاجرين الجزائريين , واستمر احتجاجهم إلى غاية تنظيم المظاهرة العارمة ليوم 17 أكتوبر 1961 , بأمر من قيادة الثورة التي أعطت تعليمات صارمة من أجل أن تكون مظاهرة سلمية , حيث أكدت هذه التعليمات على عدم حمل السلاح , و عدم رفع الأعلام , والاكتفاء بترديد عبارات "فليسقط الحظر" "المفاوضات مع حكومة الجزائر المؤقتة" "تحيا الأفالان" "حرروا المساجين" ... و قد حرصت قيادة الثورة على أن يلتزم المتظاهرون بهذه التعليمات حتى لا تترك فرصة للسلطات الفرنسية لتبرير قمعها الجزائريين و قتلهم , إلا أن ذلك لم يمنع موريس بابون و مساعديه من تشجيع أعوانهم على مواجهة الجزائريين بكل الوسائل الممكنة , حيث تشير بعض المراجع الأرشيفية , إلى أن بابون محافظ الشرطة بباريس صرح متوجها إلى أعوانه من رجال الشرطة قائلا:" حلوا مشاكلكم و قضاياكم مع الجزائريين بأنفسكم , و مهما يحدث فأنتم مؤَمَّنون و محميون ". و في نفس السياق صرح مسؤول آخر في الشرطة يدعى "صورو" متوجها إلى رجاله قائلا:" عاملوا الجزائريين على أنهم مسلحون حتى و غن لم يكونوا كذلك". * 95% من الجزائريين في فرنسا لبوا نداء الجبهة و هي التعليمات التي نفذها رجال الشرطة حرفيا و بكثير من الحقد ضد المتظاهرين الذين بلغ عددهم حوالي 50 ألف حسب تقديرات محافظ الشرطة نفسه , رغم وجود العشرات من المتظاهرين الجزائريين الذين لبوا نداء الأفالان غير أنه لم يسمح لهم بدخول باريس من ضواحيها , و هناك من قدر عدد المتظاهرين ب20 ألف , ولن نجادل في الأمر كثيرا لأن المهم أن 95 % من الجزائريين في فرنسا لبوا نداء الثورة , وشاركوا في المظاهرة , إذ لم يبق في البيوت سوى الأطفال الصغار جدا و الشيوخ , وبالتالي فإن المتظاهرين كانوا كالسيل الجارف في انتشارهم في الساحات الكبرى مثل الأوبيرا و الكونكورد و في الشوارع الرئيسية كشارع ديغول و الباستيل , ليجدوا أنفسهم فجأة وجها لوجه مع سيارات الشرطة و الجيش , حيث تم توقيفه جماعيا ليقتادوا إلى المحتشدات و الزنزانات . و رغم تفرق المتظاهرين بعد ذلك , إلا أن الشرطة استمروا في ملاحقتهم , والنتيجة أن حوالي 150 جزائري ألقى بهم البوليس الفرنسي في نهر السين بعد أن قيدوا أيديهم و أرجلهم و ربطوهم بكتلة ثقيلة حتى لا يتمكنوا من النجاة . و إلى هؤلاء الغرقى , يضاف حوالي 50 شهيدا اغتيلوا في ثكنة الحي ,زيادة على مئات الجرحى و المفقودين (حوالي 800 حسب بعض التقديرات) , بينما ذكرت محافظة الشرطة بباريس في اليوم الموالي للمجزرة , أن ألحداث أسفرت عن جرح 9 عناصر من الشرطة الفرنسية و مقتل جزائريين اثنين و جرح 64 آخرين و إلقاء القبض على 11638 جزائريا . و هي حصيل تتستر على الفظائع التي ارتكبت ضد متظاهرين مسالمين , لا سيما بعد ما تأكدت الشرطة الفرنسية أن المتظاهرين المقبوض عليهم و البالغ عددهم كما أسلفنا حوالي 12 ألف شخص , لم يكن بحوزتهم أي سلاح ناري , ولا حتى أي سلاح أبيض . و رغم ذلك فقد استمرت الشرطة الفرنسية في قمع الجزائريين المهاجرين بمصادرة أملاك بعضهم , وبالتصفية الجسدية لبعض مناضلي الأفالان , غير مبالية بما أفرزه قمع المظاهرة السلمية من استياء داخل الراي العام الفرنسي نفسه , خاصة التيار اليساري الذي عبر عن رفضه و استيائه لما قامت به الشرطة ضد الجزائريين . و كذا الطلبة و المحامون الفرنسيون الذين تظاهروا ضد المجزرة , بالإضافة إلى المهاجرين من الجاليات الأخرى , الذين تضامنوا مع المهاجرين الجزائريين . أما بالنسبة لنتائج هذه الأحداث على ثورة التحرير , فيمكن التأكيد هنا ودون أي لبس , أن مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بباريس , أعطت دفعا معتبرا للقضية الجزائرية على الساحتين الوطنية والدولية , وأثبتت للجميع مدى التنسيق الموجود بين الثورة في الجزائر , وبين المهاجرين الجزائريين في فرنسا , و قطعت الطريق أمام مناورات ديغول , لإيجاد مفاوض آخر من غير جبهة وجيش التحرير الوطنيين . بل يمكن القول أن المظاهرة ساهمت إلى حد ما في الضغط على ديغول لمواصلة المفاوضات مع الحكومة الجزائرية المؤقتة , بعد تأكده من عجز الإدار الفرنسية من القضاء على جيش و جبهة التحرير و فك تلاحمهما مع كافة شرائح المجتمع الجزائري و منا شريحة المهاجرين في فرنسا . و نعتقد أن هذا التلاحم بين مختلف الفئات الشعبية هو أنفع درس يجب استخلاصه اليوم من هذه الأحداث , لعلنا نتجاوز أزمتنا الحالية , إذ نعتقد أن إقدام الجزائريين المهاجرين على استثمار أموالهم لصالح وطنهم , و تعاون معهم في ذلك المستثمرون داخل الوطن بتوظيف أموالهم فيما يخدم اقتصاد بلادهم , لو تظافرت جهود الطرفين لخفف ذلك جزءا من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد . و السؤال من هي القوة السياسية التي تضاهي قوة الأفلان في ذلك الوقت , القادرة اليوم على إعادة اللحمة بين جزائريي الداخل و جزائريي المهجر ؟