أصبح الواحد منا كذلك الشيخ الذي يفقد أضراسه يوما وراء يوم إلى أن يصبح فمه كيوم ولدته أمه، وهذا هو الشعور الذي أحس به كلما جاءني نبأ سقوط فارس من فرساننا ونحن لم ننتصر بعد في معركتنا الأزلية، وما زلنا نعيش تحت لواء : ومنهم من ينتظر. كان عبد الله ركيبي واحدا من زملائنا في القاهرة، طالبا هادئا منكبا على دراسته، ثم افترقنا عندما انضم بعضنا إلى جيش التحرير الوطني، ثم التقينا بعد استرجاع الاستقلال في إطار مجلة الجيش التي أصبحت منبرا للفكر العربي المناضل، تحت رعاية وزير الدفاع آنذاك العقيد هواري بو مدين وبإشراف الرائد (آنذاك) الهاشمي حجريس. وكان ركيبي واحدا من أبرز عناصر المجموعة التي احتضنتها المجلة وضمت زهور ونيسي ورشيد النجار وعثمان سعدي والتركي رابح والتلي بن الشيخ وعبد الله شريط وآخرون، سقطت أسماؤهم من غربال الذاكرة، وأصبحت المجلة بفضل هذه المجموعة أهم منبر ثقافي في البلاد، وكان الفضل الأول في تشجيعنا يعود إلى الرئيس الجزائري الراحل، الذي كان من أهم قرائها ومن أحرص المسؤولين على متابعتها ما أعطاها رصيدا فكريا بالغ الأهمية، حيث أصبح كثيرون يحرصون على متابعتها بكل اهتمام. و وكان سي عبد الله من أهم بناة اتحاد الكتاب الجزائريين وكان وجوده على رأس اللجنة الثقافية في حزب جبهة التحرير الوطني رصيدا كبيرا للجنة وفرصة لإثراء النشاط الحزبي، وكانت تلك اللجنة هي التي تفرعت منها لجنة التعريب التي تولاها عبد القادر حجار، ثم انزوى عبد الله في الظروف المعروفة منكبا على كتبه وكتاباته، وكان من أبرز المدافعين عن اللغة الوطنية وله في هذا المجال كتابات جمع بعضها في بعض كتبه، ثم حدث أن انتقل إلى السلك الديبلوماسي خلال عهد الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وكان اختيار دمشق بالنسبة لنشاطه اختيارا موفقا، وترك هناك بصمات لا تمحى، ولعله كان من المثقفين القلائل الذين استفادت منهم الديبلوماسية الجزائرية. وعرفتُ سي عبد الله أكثر خلال العشرية الدموية، ففي الوقت الذي فرّ فيه بعض المثقفين خارج الوطن بحجة تعرضهم لتهديدات إرهابية ثم عادوا بعد استتباب الأمن لإعطائنا الدروس في الوطنية كان هو واحدا من المجموعة النشطة التي رفضت الاستسلام لمنطق الفتنة، وضمت عددا من المثقفين كان من أبرزهم محمد الطيب العلوي ويحيى بو عزيز وعثمان سعدي وموسى لقبال وزهور ونيسي وأحمد بن نعمان وعبد العزيز بالخادم وعبد القادر حجار وآخرون. ورحنا نجوب أعماق الجزائر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، نقيم المحاضرات والندوات ونفتح النقاشات ونواجه التصلب والتعصب والعدوانية ونحرض على الصمود الاجتماعي وندعو للوحدة الوطنية ونفتح جسور الحوار بين جيل المخضرمين وجيل الشباب، وأنا أشعر باعتزاز كبير وأنا ألتقي اليوم كهولا كانوا وقتها من الشباب الذي كان يتابع ندواتنا في كل مكان، وسواء في متحف المجاهد أو في اللقاءات التي تنظمها الجمعيات الثقافية عبر ولايات الوطن. وعندما أنشئ مجلس الأمة في 1998 كان سي عبد الله واحدا ممن وقع عليهم اختيار رئيس الجمهورية آنذاك، الرئيس اليمين زروال، مع عدد آخر من المثقفين، ليكون واحدا مما سُمّي "الثلث الرئاسي"، وكان مثالا لرجل الدولة الذي يدرك التزاماته ويحترم صداقاته، وتمسك آنذاك بالبعد عن المناصب والاكتفاء بممارسة النشاط في المجال الثقافي للمجلس. وعند انتهاء ولايته استكان للتقاعد، ورغم محاولة كثيرين من بيننا إخراجه من شرنقة التقاعد إلا أنه رفض ذلك بكل إصرار. رحم الله عبد الله ركيبي وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.