يحاول الدكتور جبار خماط المسرحي العراقي من خلال مشروعه الفكري تقديم المساعدة النفسية والاجتماعية لضحايا الحروب والمرضى النفسيين والمدمنين، ومعالجة علل وأمراض المسرح العربي، من خلال استثماره للأداء التمثيلي وذلك من خلال التدريب على التمثيل ونشر أفكار لتحقيق التكامل الذاتي للفرد أو الجماعة ولزرع الثقة وصناعة المستقبل. .يعتبر مشروعه “العيادة المسرحية” انه منهج علاجي وإصلاحي يعتمد المسرح سبيلا للوصول إلى بناء الذات ونقلها من السلبي إلى الايجابي فكرا وسلوكا، يري بان المسرح يجب النظر إليه بوصفه رؤية المستقبل وليس فكرا مقيدا بالماضي، كما يؤمن بمبدأ الشراكة بين الممثل والجمهور، في هذا الحوار تحدث الدكتور جبار خماط مجيبا عن أسئلة الحياة العربية التي ارتبطت بصورة مكثفة حول العيادة المسرحية التي أصبح لها صدى عالمي، وهذا نص الحوار: حوار: نسرين أحمد زواوي أولا، حدثنا عن مشروعك “العيادة المسرحية”، كيف تأسست والدافع من هذا المشروع؟ أو بالأحرى الدافع الذي وجهك لهذا المشروع؟ مشروع العيادة المسرحية جاء بهدف التخفيف من الآلام الناس وإحباطاتهم، بسبب الظروف الصعبة والحروب التي تركت في نفوسهم، جفافا في التواصل مع الأخر وفقدان اتجاه بوصلة وجودهم مع المستقبل، ولهذا يمكن عد العيادة المسرحية، منهج أدائي يرمم المشكلات ويعالجها بالتمثيل المسرحي، الذي يمتلك القدرة، على الإتيان بالمستقبل بوساطة الابتكار الذي تشترك فيه جميعنا بنسب متفاوتة، الأمر الذي يسمح بتطوير قدراتهم الذهنية مثل التخيل والتركيز والاسترخاء، والقدرات الصوتية والجسمانية، التي يمر بها المشارك، شرط أن تكون فاعلة وقادرة على الإمساك به داخل الجرعة التدريبية، ولهذا تميل العيادة إلى تقديم وجبة التمارين التي تعتمد اللعب والتلقائية، سبيلا للتواصل والتأثير بالمشاركين. .. على ماذا يعتمد هذا المشروع؟ تعتمد العيادة المسرحية العلاج بالمستقبل، وحسب علمي فان أغلب الطرق العلاجية، التي تأخذ من المسرح طريقا للعلاج، تعتمد العودة إلى ماضي الحالة المرضية، التي تقوم عليها السيكودراما التي أطلقها الطبيب النمساوي جاكوب مورينو سنة 1921، والذي يقوم باستعادة خبرة المريض السابقة، بقصد حلها، وبوجود ممثلين محترفين، لكن وجد مورينو، من خلال الملاحظة، أن حالة المريض لم تتحسن، بل تتفاقم بسبب استعادة العقدة من دون حلها، الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز الحالة المرضية لديهم، برأيي أن المسرح بشكل عام، طاقة علاجية فكرية وشعورية، تتفاوت درجاتها حسب المعالجة المسرحية التي يعتمدها المخرج المسرحي، فحين تأملت تلك الطريقة، وجدت أن صناعة الثقة مفقودة لدى المشاركين، وغياب المستقبل لديهم والذي يحقق طاقة إيجابية، وهنا جاءت العيادة منهج مسرحي، يتواصل يتفاعل مع الناس في كل مكان، بهدف تعزيز مهاراتهم الأولية، وإنتاج سلوكيات جديدة لديهم قابلة للاندماج والعودة مرة أخرى إلى الحاضنة الاجتماعية، مثلما حصل لدى السجناء والمدمنين ومصابي السلاح الكيماوي الذي تواصلت معهم العيادة المسرحية، في مشاريع مسرحية، أثنى عليها أغلب المتابعين للشأن المسرحي. .. ما هي أهم الأسس النفسية التي تقوم عليها العيادة المسرحية؟ وهل هناك آليات وأسلوب عمل للعيادة المسرحية؟ للعيادة المسرحية ثلاثة أسس الأول علاجي، يفترض تحويل السلبي إلى إيجاب ، والأساس الثاني هو المهاري، أي تعلم مهارات الأداء التمثيلي الذي يتسم بالبساطة والتلقائية، أما الأساس الثالث تواصلي وفيهم يتم البحث عن بيئة تواصلية ما بين مجموعة العيادة المسرحية، من ممثلين يقدمون شخصيات من تيار الحياة، وهنا تتحقق فرضية المسرح البديل الذي يصنعه الناس البسطاء أو المنسيين في كل مكان بعيدا عن المسارح التقليدية ذات الطابع الرسمي، ولهذا أجد في العيادة المسرحية تأصيلا علميا وفنياً، يتمثل في إنتاج بيئة ثقافية جديدة، يصنعها المسرحي في عيادته، من خلال مشاركين يصنعون حياة مبتكرة، ومن خلال إعادة بناء واقعهم السلبي، وإنتاج نسق حياتي جديد يؤمنون به، بالتالي هذا التحول هو تأصيل علمي وعلاجي، لا يعتمد الطرق العلاجية التقليدية، من أرسطو مرورا بديدرو وانتهاءا بجاكوب مورينو، الذي أطلق مصطلح السيكودراما ، لعلاج المرضى في المصحات النفسية . .. ما الذي حققته العيادة المسرحية منذ تأسيسها إلى غاية اليوم؟ أنتجت العيادة المسرحية، ثلاثة مشاريع، أولها كان في سجن الأحداث، تعاملت مع فرضية حل مشكلات السجناء الأحداث وكيفية معالجتها وتحويلهم من السلبي إلى الإيجابي، التي تعيد رسم خارطة طريق حياتهم نحو الاندماج الاجتماعي، التي يفقده أغلب السجناء، وإذ تواصلت معهم العيادة، من أجل تغير مزاجهم وأفكارهم، لأنهم دخلوا بيئة الإبداع، واكتشفوا قدرات أدائية جديدة، كانت مفقودة لديهم، والغريب أن مساحة الارتجال لديهم واسعة، واقتراحات الشخصيات التي قاموا بتمثيلها كلها إيجابية، لأنه يشعر أن هذه الشخصيات التي قام بتمثيلها هي بديل موضوعي ، يعوض اضطراب شخصياتهم والظروف المحيطة بها، والتي دفعتهم للجريمة، لقد وجدوا ذاتهم الضائعة داخل العيادة المسرحية. المشروع الثاني كان مع مدمني الكحول والمخدرات، هؤلاء المدمنين دخلوا العيادة المسرحية، تدربوا على مهارات مسرحية، وتدريبات صوتية وجسمانية مكثفة، واتخذوا طريق التحدي، بقصد التخلص من الإدمان، لقد مثلوا شخصيات إيجابية، بالتكرار اليومي داخل العيادة المسرحية، تحولت إلى مخزن الذاكرة طويلة الأمد، وهذا يعني إيمانهم بسلوك جديد، يعتمد بنية قيمية تتقاطع مع الإدمان الكحولي والدوائي، الأمر الذي دفعهم إلى ترك الإدمان وسط دهشة الأطباء في مستشفى ابن رشد التدريبي للطب النفسي، قدموا عرضا مسرحيا بعنوان “يوميات مواطن منسي” تأليف وتمثيل مجموعة من المدمنين، ثالث مشاريع العيادة، كان مع مصابي السلاح الكيمياوي، هؤلاء الذين يشعروا بالعزلة والإحباط وصعوبات في التنفس، دخلوا العيادة، تدربوا وأبدعوا نصا مسرحيا بعنوان “أنا موجود” مثلوه بإتقان في قاعة مديرية صحة حلبجة، ومن لا يعرف حلبجة فهي مدينة تعرضت للقصف الكيماوي أثناء الحرب العراقية الإيرانية. .. هل يمكن اعتبر العيادة المسرحية جزء من التنمية البشرية؟ ينبغي أن نتساءل هنا حول علاقة التنمية البشرية في المسرح؟ هل هي ضرورة أم اختيار؟ كيف يمكن تداولها مسرحيا؟ ينبغي القول أن التنمية البشرية هي أن يعرف الناس أنهم يمتلكون القدرة على صناعة الحياة يمتلكون القدرة على صناعة مستقبل أفضل يمتلكون القدرة على إيجاد مقاربات في فهم الأخر وفِي فهم الوجود، وحتى في فهم البيئة المحيطة، التنمية البشرية مصطلح لصناعة ذات ناجحة تستطيع أن تعرف قدراتها الإبداعية تتخذ قرارا وتصنعه بشكل إيجابي وتؤثر في الأخر ضمن قدراتها التي تدخل في بناء الشخصية وتمتلك الروح الإيجابية التي تصنع وتؤثر وتحقق الضمانية لمستقبل يفيد ويتحرك ضمن إيقاع المجموع. فالهدف من التنمية البشرية هو بناء الذات والقدرات وصولا إلى التركيب المجتمعي بشكل عام، ولا يمكن بناء القدرات في بيئة قلقة أو متوترة أو تغيب عنها البيئة القانونية والمجتمعية المستقرة، وبما يتعلق في المسرح من حيث التكوين والرؤيا من المهم تعزيز بناء الثقة للقدرات الخاصة للتنمية البشرية وعلاقتها بالمسرح من حيث الفكر والإنتاج .. كل الفعاليات المتعلقة في إنتاج العرض أو النشاطات أو عناصر العرض ممثل، منظر، سنوغرافيا، صراع بالنسبة للطاقة الفاعلة للعرض أو النص كلها ضرورية ومهمة في تطوير القدرات المتعلقة بصانعيها، إذ لا يمكن أن تتحقق التنمية البشرية في المسرح بدون متلقي يمتلك القدرة على التواصل الواعي مع العروض المسرحية، علاقة متوازنة ما بين عرض مسرحي فاعل وملتقي له القدرة على التعرف على العروض الجيدة التي تؤثر في حركة المجتمع وتحقق علاقة عضوية بما يخدم الشعوب بشكل عام. .. هل نفهم من ذلك أن التنمية البشرية ضرورية للفعل المسرحي؟ أكيد، التنمية البشرية في المسرح ضرورية لأنها تكشف قدرات خاصة وتمتلك الأسلوب المستقل في العطاء الجمالي وتبعد الطاقات الأخرى التي لا تمتلك مثل هذا الحضور، فيها تنمية فنية وفكرية تكون ضمن مكون بناء الثقة من جديد ورسم خارطة الطريق لمستقبل مسرحي عربي، أن العالم فيه كل شيء، إشارات سمعية وبصرية وحركية، تحقق جاذبية الفاعلة ؟ لكن ما نجده في الحياة قد يغيب أو لا يتحقق بشكل كامل في الفن وهذه مفارقة كبرى أن الفن خبرة مصنوعة وبالتالي بالإمكان تحقيق من الإثارة والدهشة ما يجعل من الجمهور متواصلا ومرتبطاً، بما يتم تقديمه على خشبة المسرح. .. كيف لنا أن نربط التنمية البشرية بالمسرح؟ يمكن ربط التنمية البشرية والمسرح، بمخرجات التخطيط الثقافي، الذي ينبغي أن يحدد مسار النجاحات والإخفاقات على حد سواء، وللأسف فإننا نحدد واقع التنمية الثقافية على مقاسات من يخطط، وليس على حاجات الجمهور والمتغيرات المحيطة به، وبالتالي أخفقت الكثير من الدول، على تسويق الفن المسرحي جماهيريا، لأسباب اجتماعية وعرفية واقتصادية، إن أساس التنمية البشرية للمسرح، هو وضع مسار صحيح لمسرح الطفل، وصولا إلى مسرح الكبار. .. هل هناك هيئات عربية تبنت فكرة المشروع؟ بما أن العيادة تدعو إلى معالجة هموم الإنسان ومشاكل المجتمع الذي يعاني هيمنة الحروب وأثرها في إحداث هزات البنية المجتمعية والقيمية، فقد أولت الهيئة العربية للمسرح اهتماما ملحوظا وتواصلت مع العيادة، وسعيها الكريم لمشاركة العيادة المسرحية في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي، وهنا جاءت الدعوة الكريمة من مهرجان القاهرة، للمشاركة في فعالياته المميزة، ضمن مجال الورش المسرحية، إذ قدمت ورشة العيادة المسرحية ضمن مسرح الطليعة، التي تفاعل معها المشاركين بزخم عال، إذ تفاعلوا مع أهداف العيادة وتمارينها اليومية. .. يشهد العالم العربي في الفترة الأخيرة حراك واسع في تنظيم المهرجانات المسرحية، هل كثرة المهرجانات تعني أن المسرح العربي بخير؟ في الأمم التي نشأت فيها الدراما والمسرح لا تؤمن بالكم من المؤلفين والمخرجين ولا تدرس الفنون لكل من هب ودب، بل تؤمن أن الفنون عامة والمسرح بخاصة مران حضاري يتطور بالممارسة الجمالية والتدريب النوعي على بناء للذوق الاجتماعي المستقر، تجد لديهم الفنانين المبدعين على عدد الأصابع والمهرجانات أيضا، لكنهم يضعون كل الإمكانات المادية والمعنوية لتنمية قدرات ونتاجات أولئك المبدعين، حتى يتحولوا إلى علامات ثقافية عالمية ممكن استثمارها في سوق العمل الثقافي العالمي، أما نحن في بلداننا العربية ما أكثر المهرجانات وما أكثر العاملين في الحقل المسرحي، يعملون معزولين عن الحراك الاجتماعي وكيفية تطويره، ولذلك ضعفت رسائل التنوير وقلت مبادرات التغيير، وتقهقرت محاولات الإبداع والتعبير، وكثرت قرصنة التجارب العالمية المتوفرة على مواقع الانترنت! طبعا لا يمكن التعميم، لان في وطننا العربي توجد أسماء وتجارب مهمة لو استثمرت في خارطة طريق إبداعية، وتحييد من أشباه المسرحيين، قطعا سنصل إلى بر العمل الثقافي المستقر والنوعي الذي فيه بعد التغيير الحضاري واضح المعالم وأثاره النفسية والاجتماعية والفكرية واضحة على سلوك المجتمعات الإيجابي، المسرح هو شراكة مستدامة ما بين الصانع المبدع والجمهور الذي يفكر دوما بالجودة الجمالية التي تصل به نحو مستقبل خال من التشويه والعنف الصوتي والبصري، إذ لا يمكن لنا أن نرسم خارطة طريق فاعلة لمسرحنا، ما دامت المؤسسات الحكومية وغير الحكومية تعمل بإستراتيجية تقليدية للتطوير والتنمية، فما أحوجنا إلى مشروع شركة حوارية ما بين المؤسسات العربية ذات العلاقة بالمسرح، لوضع علامات تدل على النجاح في التأثير والتحول في الذائقة المجتمعية من السلبي إلى الايجابي، ولا يمكن للتغيير الإيجابي والتطوير للفن أمام لائحة الاتهام الباطلة تلوح في وجه المبدع تكسر ظهره وتجعله عاجزا عن الحركة، هذا جائز وذاك ممنوع وما بين هذا وذاك يترنح الفن النبيل بانتظار من ينقذه.. .. أمام هذه المشاكل، ما الذي توجهه لصناع المسرح في الوطن العربي؟ أنقذوا المسرح من الطارئين البواقين الزاحفين على أكتاف الفشل الفني، كونوا أحرارا في فنكم، اعملوا بصمت فسيرى الجمهور منجزكم ويشير لكم بالاحترام والاعتزاز .. الفن اعتقاد وضرورة وحاجة وجودية يصنعها الأفذاذ من البشر ولهذا هم معدودون، فلا تجعلوا أمامهم أسوار الممنوع الذي ينتج فنونا وعظية، جبينها مختوم بالنفاق الفني، ويجعل من الغث سمينا، ومن العادي مميزا، ومن المألوف إبداعا…