عما قريب سيبدأ الكتاب والمفكرون مناقشة موضوع شغل بال الكثيرين خلال نصف القرن الاخير وما يزال يؤرق القوى الكبرى وحكومات المنطقة على حد السواء. انه موضوع صعود الحركة الإسلامية المعاصرة وهبوطها، وضمن ذلك ما اصطلح على تسميته «الإسلام السياسي». ولا يمكن فصل العنوانين عن بعضهما، لأن هذه الحركة تبنت مشروع الحكم وسعت للوصول إلى السلطة في اغلب البلدان العربية والإسلامية. وهذا يختلف عن الحديث عن الإسلام كدين وعبادة يمارسها غالبية المسلمين ماضيا وحاضرا ومستقبلا. واذا كانت الثورة الإسلامية الإيرانية قد باغتت العالم وسيطرت على اكبر دولة في الشرق الأوسط آنذاك، فإنها في الوقت نفسه فتحت عيون العالم على المشروع الإسلامي السياسي ووضعت أجهزة الأمن المحلية والاقليمية والدولية في حالة تأهب دائمة. وبموازاة القمع الذي ناله «الإسلاميون» ثمة اساليب «ناعمة» تستخدم بشكل متواصل لإضعاف بريق الإسلام السياسي الذي طغى على الخطاب الديني منذ مطلع السبعينيات. وربما يكون من السابق لأوانه الحديث عن افول ذلك المشروع، ولكن المؤشرات تؤكد ان حالة الصعود التي شهدها بعد ثورة إيران قد توقفت، وان الحركة الإسلامية (ويسميها مناوئوها الإسلاموية) انهكت بأساليب شتى من بينها القمع السياسي الشرس، والاعلام المضاد الذي يبالغ في ترويج سلبياتها، بالاضافة لاخفاقاتها السياسية، ووجود اجماع دولي على محاربة الظاهرة ومنع تفاقمها، وتعمق هذا التوجه بعد ثورات الربيع العربي قبل ثمانية اعوام، التي اظهرت عددا من الامور: اولها وجود اجواء سياسية ونفسية لاستقبال بديل سياسي للأنظمة الفاسدة التي تحكم المنطقة منذ عقود، ثانيها: قدرة الحركة الإسلامية على تعبئة انصارها للمشاركة في الاحتجاج السياسي وتوجيهه للمطالبة بتغييرات سياسية جوهرية، وثالثها: شعبية الاتجاه الديني في الشارع العربي الامر الذي يتيح للإسلاميين فرص الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. هذه قراءات توصلت لها قوى الثورة المضادة منذ فترة وتعمقت في السنوات الاخيرة التي شهدت دخول البعد الاسرائيلي على الخط وتحالفه مع الانظمة المحلية في صراعها مع القوى الإسلامية. لقد كانت سنوات ما بعد الربيع العربي من أكثر الحقب ضررا للمشروع الإسلامي الذي تضاءل الحماس له، ليس من قبل مناوئيه فحسب، بل حتى من المحسوبين عليه. والنقاش هنا لا يشمل الحركات المتطرفة والارهابية التي تعمل باسم الإسلام، فمشروعها مختلف عن مشروع الإسلام السياسي الذي تبنته الحركات التقليدية خصوصا الاخوان المسلمين في العالم السني وحزب الدعوة الإسلامية في العالم الشيعي، وتشجعت بانتصار ثورة إيران قبل اربعين عاما. ويلاحظ هناك ما يلي: اولا ان العديد من الحركات الإسلامية وصل إلى الحكم بطريقة او اخرى: في العراق ومصر والسودان وتونس والمغرب، وقبلها في إيران. ثانيا: انها جميعا (في ما عدا إيران التي اعلنت قيادتها الدينية منذ البداية انها تريد اسقاط نظام الشاه واقامة نظام اسلامي مكانه) استدرجت للوصول إلى تلك المواقع وهي غير مستعدة تنظيميا او فكريا او نفسيا لاقامة منظومة سياسية تنسجم مع رؤاها وما تحمله من مشروع سياسي. ثالثا: انها جميعا اخفقت في اقامة منظومة حاكمة اسلامية يمكن ترويجها كمثال ناجح للحكم يغري الآخرين ويجذبهم لاحتضانها. رابعا: ان هذا الفشل ساهمت فيه عوامل عديدة: ذاتية وخارجية وظرفية. خامسا: انها جميعا اخفقت في قراءة تجاربها بموضوعية لاستخلاص الدروس التي قد تساهم في تحسين ادائها فيما لو اتيحت الفرصة لها مستقبلا. سادسا: ان هذه القوى جميعا بدأت طريق التلاشي ليس من الحكم فحسب بل من الخوض في الفضاء العام وترويج مشروع الإسلام السياسي الذي نشأت من اجله. سابعا: ان هذه الحركات جميعا خاضت تجاربها منفصلة عن بعضها ولم تستطع استمزاج آراء بعضها البعض او تشعر بالانتماء لجسد واحد ينسق بين التجارب ويوفر توجيهات مختلفة. ثامنا: ان استهدافها ميدانيا هذه المرة يتم باشراف تحالف جديد ظهر في السنوات الاخيرة ضمن ما سمي «قوى الثورة المضادة» الذي يضم دولا عربية بالإضافة للكيان الاسرائيلي. وعلى صعيد التنفيذ الميداني تتصدر السعودية والامارات المشهد مستهدفة مشروع «الإسلام السياسي» ابتداء بإيران مرورا بحزب الدعوة العراقي وامتداداته الاقليمية وحزب الله اللبناني وصولا إلى جماعة الاخوان المسلمين بكافة تجلياتها. تاسعا: ان الحركات الإسلامية ساهمت بضرب نفسها عمليا، وذلك بالاستجابة لأول طلقة من التحالف المضاد عندما طرح الخطاب الطائفي واستعمله اداة ماضية لمنع توحد اطيافها. وقد استجابت لذلك الخطاب وبثته في جماهيرها فشغلتهم عن الاعداء الحقيقيين لمشروعهم، فاستفرد هؤلاء الاعداء بكل فصيل منها على حدة، فلم تذرف دمعة عين على سقوط اي منها. عاشرا: ان هذه الحركات لم تستطع تجديد نفسها او خطابها او انظمتها الادارية، فتقلص دور الاجيال الجديدة في صفوفها بينما اصيبت قياداتها بالشيخوخة. ازاء هذه الحقائق تجدر الاشارة إلى بعض الملاحظات حول ازمة حقيقية تعاني منها هذه الحركات وساهمت في سقوطها. فقد اظهر قادتها، بدون استثناء عدم استيعابهم لخطط قوى الثورة المضادة ومشروعها الهادف اساسا لمنع التغيير في العالم العربي وضرب المشروع الإسلامي جملة وتفصيلا. ولذلك استدرجت لخوض معارك ليست معاركها وبالتالي اضعفت نفسها كثيرا وساهمت في تهميش دورها السياسي، وكشفت ضعفا بنيويا خصوصا في جانب النظرة الاستراتيجية والتخطيط البعيد المدى كما يتضح مما يلي: اولا ان الاخوان المسلمين في مصر وصلوا إلى الحكم ولم يمكثوا فيه الا هنيهة وسرعان ما اسقطتهم قوى الثورة المضادة بتوحش غير مسبوق. وخلال هذه الفترة لم يكن اداؤها بالمستوى المتوقع، فلا رئيسها امتلاك شخصية قيادية مناسبة للظروف الصعبة التي تمر بها مصر والتي صاغتها قوى الثورة المضادة، ولا تنظيمها استطاع فصل الجانب الدعوي لديها عن الجانب السياسي. ولم تسعفها نظرتها السياسية لاستيعاب حقائق الواقع السياسي المحيط بها، فاستجابت لدعوات بعيدة عن ثقافتها وتخندقت في غير خندقها، واستدرجت لمواقف مع القادة الاسرائيليين لا تليق بها، ولم تستطع استقطاب الآخرين وتحييدهم، معتقدة ان الامر قد استقر لها تماما. وعندما جاءت الضربة الأمنية بتخطيط ودفع من قبل قوى الثورة المضادة، لم تستطع الحركة تحمل ذلك. وكانت النتيجة خروجها من الحكم ممزقة والدماء تسيل من اوصالها، بعد ان شوهت اسلاميا وسياسيا وتنظيميا وبرغم تنازلها عن شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعته طوال عمرها. واليوم اصبحت الحركة ممزقة ومشتتة في اصقاع الارض وقادتها يرزحون في السجون، بينما هرمت رموزها ولم تعد قادرة على طرح مبادرات تنسجم مع الظروف المتجددة ومستلزماتها. ومن الصعب استشراف حقبة مقبلة تستعيد الحركة فيها موقعها الريادي بعد ان استطاع الحكم العسكري والتحالف السعودي الاماراتي ضرب مشروع الإسلام السياسي الذي يمثلونه، فاصبحوا تركة ثقيلة لا يريد احد حملها. وبرغم النقد الموجه لإخوان مصر فان الفروع الاخرى لم تكن احسن حالا. فبرغم تنازلات اخوان تونس فقد اخرجوا من السلطة ويتعرضون لحملات تشويه يومية ممولة من قبل التحالف السعودي الاماراتي. واخوان السودان تمزقوا منذ زمن وغاب مرشدهم الروحي، المرحوم الدكتور حسن الترابي بعد ان تم سجنه وتهميشه من قبل احد مريديه. واخوان المغرب ليسوا افضل حالا بعد ان قبلوا بالانخراط ضمن نظام حكم لا ينسجم مع ايديولوجيته وقيمه، فتراجعوا كثيرا عن مبادئهم من اجل السلطة، ومع ذلك فرأسهم مطلوب ولن يطول الوقت قبل ابعادهم. وفي العراق تواجه الحركة الإسلامية ممثلة بحزب الدعوة أسوأ حالاتها، فقد خسر رموزها المعركة الاخلاقية بعد 15 عاما على رأس الحكومة، متهمين بضعف الادارة والمشاركة في الفساد. وساهم في ذلك تنازع رموزهم على الحكم مع علمهم انهم يعيشون في ظل الهيمنة الأمريكية المطلقة. وبرغم عدم رفعهم شعار الحكم الإسلامي الا ان وجودهم في الحكم كان مثيرا لحفيظة قوى الثورة المضادة. ويجد قادة الحزب اليوم صعوبة بالغة في ترويجه او طرحه في الشارع الذي اصبح يحمل الحزب كافة اخفاقات الحكم. وهكذا تراجع المشروع الإسلامي في العراق وليس متوقعا عودة الحياة مجددا لذلك المشروع خصوصا في ظل الهيمنة الأمريكية وتوجه البعض للتطبيع مع الاسرائيليين، وفتح المجال للتحالف السعودي الاماراتي للعبث السياسي والفكري وشراء المواقف في اوساط الشيعة والسنة على حد السواء. القدس العربي