يجمع متابعون ومهتمون بالشأن العام، وفاعلون في الرأي العام، على أن الخطاب السياسي في تونس قد بلغ، أخيراً، أدنى مستوياته، متجاوزاً كل الخطوط الحمراء المتعارف عليها. ومن مؤشرات ذلك أن يصبح البرلمان مثلاً حلبة للصراع، وأن يتحول سلاح الخصوم السياسيين كيلاً من الاتهامات والتشويه، وصولاً إلى دعوة رئيس حزب الفلاحين وعضو البرلمان، فيصل التبيني، إلى تصفية رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، بالرصاص، مع الإعلان عن اتفاقية بين الاتحاد الأوروبي وتونس، تنوي الحكومة توقيعها قبل موفي العام الحالي ( 2019)، وستمكن الطرف الأوروبي (أشخاصا ومؤسسات) من حرية الوجود على التراب التونسي في مجالات عديدة ومنافسة التونسيين فيها، وتهدف كذلك إلى تحقيق اندماج الاقتصاد التونسي داخل السوق الداخلية الأوروبية، وعموماً في الفضاء الاقتصادي الأورو.. متوسطي. وهي اتفاقية اعتبرها النائب من أشكال الاستعمار، قائلاً “إذا وقعت تونس هذه الاتفاقية وتمكّنت من الوصول إلى الحكم فسأقوم بإعدام يوسف الشاهد رمياً بالرصاص في شارع الحبيب بورقيبة أمام كل التونسيين”. وقبل ذلك، كتب مدير موقع الصدى، راشد الخياري، في تدوينة في “فيسبوك” عن نفسه “مستعدّ في حال وصولي يوماً للسلطة بطلب إعدام عبير موسى (رئيسة الحزب الدستوري الحر) وكل من يحمل فكرها الإجرامي”. وأورد عضو المجلس البلدي في إحدى ضواحي العاصمة، ياسين سلامة، الذي قدم استقالته أخيراً من البلدية، على صفحته في “فيسبوك” تدوينة لشخص آخر، تضمنت دعوة إلى رمي الأعضاء المستقيلين بالرصاص. هذه النماذج من عنف الخطاب السياسي الذي أصبح شائعاً في الفضاء العمومي التونسي، اعتبرها متابعون مؤشراً إلى حدّة التوتر والاحتقان على الساحة السياسية، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة التي تستعد فيها البلاد للانتخابات التشريعية والرئاسية (أكتوبر ونوفمبر 2019)، حيث يتطلب الوضع أكثر ما يمكن من تهدئة الأوضاع والتقارب، وتوجّه الأحزاب والسياسيين إلى التنافس عبر البرامج والأفكار، وليس عبر الخطاب السياسي العنيف الذي يتضمن عبارات القتل والإعدام والرصاص. ومن ذلك إصدار حركة “تحيا تونس”، الحزب الجديد الذي يتزعمه الشاهد، ويؤازر حكومته، بياناً ندّدت فيه بما اعتبرته تصريحاتٍ غير مسؤولة، ومشينة في حق رئيس الحكومة، مؤكدة دعمها التام له في ظل هجمات متكرّرة، يتعرض لها منذ انطلاق بعضهم في حملات انتخابية مبكرة. واعتبرت الحركة هذه التهديدات المتضمنة دعوة إلى القتل “شعبوية تدل على إفلاس سياسي”، مؤكدة دعمها التام مبادرة إبرام “ميثاق الأخلاق السياسية” التي أعلن عنها رئيس الحكومة في وقت سابق، تأسيساً لثقافة الحوار واللاكراهية والتعايش في كنف السلم واللاعنف، ورفضاً لكل تطرّف، مهما كان نوعه. وعلى عكس صمت التقدميين، وأحزاب فاعلة كثيرة، في الساحة السياسية، فقد ندد القيادي في حزب النهضة، لطفي زيتون، بالتهديدات التي طاولت يوسف الشاهد، وكتب في صفحته الرسمية “بعيداً عن الاعتبارات السياسية وغيرها، فإن تهديد رئيس الحكومة أو أي شخص بالقتل رمياً بالرصاص يعد جريمة تستحق التنديد بها والتضامن مع من استهدفته”. ويعد، بديهياً، تهديد رئيس الحكومة بالرمي بالرصاص، والذي أصبح موضوع الساعة، شأناً خطيراً، ويستدعي السؤال عن صمت الأحزاب عن هذا الانفلات الحاصل، وفتح باب التهديد بالتصفية والاغتيالات مجدداً… وهذه المرة من قبة البرلمان المفترض أنها تحمي الحقوق، وتحترم علوية القانون. في الحفر عن أسباب هذا المنعرج الخطير للخطاب السياسي في تونس، قال عالم الاجتماع الطيب الطويلي “إن تفشي ثقافة اللاعقاب وتراجع الوازع الديني والتربوي والأسري والمدرسي يساهم في تأسيس هذا النزوع اللاأخلاقي، كما يمثل المناخ الاجتماعي السائد، وضعف الدولة، “لا أحد مستفيد من هذا الوضع الكارثي الذي أصبحت عليه الممارسة السياسية في تونس” دافعاً آخر لتبنّي نزاعات العنف والتطرّف، علاوة على الانفلات الإعلامي وغياب المشروع الثقافي والتربية على التعايش والديمقراطية”. وجاء طبيعياً أن تفرد وسائل الإعلام التونسية، من صحف ورقية ومواقع إلكترونية، مساحات كثيرة للتنديد بالظاهرة، وقد أجمعت على أن ما يتواتر هذه الأيام بشكل متسارع على مستوى الخطاب السياسي لا يبشر بتفاؤلٍ كثير، بل يدفع إلى إطلاق صيحة فزع لإخراج الممارسة السياسية مما انحدرت فيه من كراهية وأحقاد وشحن وتجييش متبادل من أكثر من طرف وجهة. ويبدو وجيهاً ما ذكرته صحيفة الشروق التونسية، وهي الأوسع انتشاراً، يوم 12 مايو الجاري، أن التهديدات بالإعدام والرمي بالرصاص والتوعد بالسجون والمنافي تعكس عمق المأزق الذي تعيشه السياسة في تونس، متسائلة “هل أضحت السياسة امتلاك القوة والسلطة لنفي الآخر المخالف، وقتله مرة واحدة؟ أليست السياسة في أبسط تعريفاتها حماية الوطن من كل المخاطر وحسن إدارة شؤون المواطنين؟” وكل الحق مع الصحيفة في أن لا أحد مستفيد من هذا الوضع الكارثي الذي أصبحت عليه الممارسة السياسية الذي يعود بتونس تدريجياً إلى ثقافة الاستئصال ونوازع التسلط والاستبدال. وفي المحصلة، تجمع أصوات العقلاء من المثقفين والحكماء على أن السياقات الداخلية للبلاد والجيوسياسية، في إشارة إلى التوتر القائم في الجارتين الشرقية والغربية، حيث يحاول الجيش إدارة الأزمة في الجزائر، وحيث أن من شأن محاولة خطف السلطة بالقوة في ليبيا، أن يجعل التونسيين يلتفتون إلى شأنهم الداخلي، في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية صعبة، كما أهمية المواعيد الانتخابية المقبلة في عبور الانتقال الديمقراطي. يستدعي ذلك كله وقفة عاجلة من القوى الوطنية الصادقة للتصدي لهذه الثقافة الإقصائية والعدائية التي أصبحت تطبع الجزء الأكبر من الممارسة السياسية، ممتدة في جميع مناحي الحياة الوطنية، في ظل ما يترسخ تدريجياً من نماذج الأنانية والفردانية الضيّقة والغنائمية والنماذج الدموية والعنيفة المخلة بالقيم الإنسانية النبيلة، وفي مقدمتها قيم المواطنة والعيش المشترك، في ظل التنوع والحرية واحترام الآخر، خصوصاً وأن تونس لن تتحمل خماسية جديدة أخرى من التجربة والخطأ، ومن وجود أحزابٍ لا تملك الحد الأدنى من البرامج والمشاريع وحكومات متتالية تعد بما لا تملك، وتطبق برنامجاً لم تعرضه على الشعب. العربي الجديد