أفرزت التحولات الدولية والإقليمية على أكثر من مستوى تصدع كثير من الاقتصاديات الدولية، وتفكك وإخفاق عدد من المشاريع التنموية، حيث أضحت بعض من هذه المشاريع عاجزة عن تحقيق التوازنات الكبرى، في الوقت الذي كان مطلوبا منها أن تنتهي من هذا الهدف، وترتاد آفاقا أخرى تهم تقوية أنظمة الحماية الاجتماعية، وتحقيق الإنصاف والرفاه الإنساني. وأمام هذا الواقع، لم يعد السؤال المطروح يروم تعديل الأنساق التنموية الراهنة وإدخال تحيينات أو تحسينات عليها، بقدر ما صار الانشغال الأكبر هو محاولة الجواب عن مرحلة ما “بعد استنفاد هذه النماذج التنموية لأغراضها”، وما إذا كان من الممكن بناء نماذج أخرى، أو على الأقل التفكير في أجيال جديدة من نماذج النمو والتنمية، في العالم بأسره، أو في العالم العربي. في هذا السياق، يحاول الدكتور إدريس الكراوي، الخبير الاقتصادي المغربي أن يسلط الضوء على هذه الأسئلة في كتابه: “التنمية نهاية نموذج؟”، ويضع النموذج التنموي العالمي والعربي في مشرحة التحليل والنقد في ضوء سؤال الانسجام ما بين الاقتصادي والاجتماعي، وما إذا كان التطور الذي يعرفه النظام الاقتصادي بتمظهراته التنموية، ينعكس على المستوى الاجتماعي في شكل استجابة لمتطلبات الاندماج الاجتماعي. يفكك إدريس الكراوي، الذي شغل مناصب اقتصادية مهمة في بنية الدولة المغربية (الأمين العام للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي منذ سنة 2012، ثم رئيس مجلس المنافسة حاليا) وجوه اختلال النموذج التنموي، ويسلط الضوء أولا، على الاختلال الذي مس التوازن الداخلي للنظام الاقتصادي، والذي تمظهر في صورة احتدام تناقض داخلي تجلى في ثلاث ظواهر مترابطة: المضاربة المالية ضد الإنتاج، والسوق ضد الدولة، والفدر ضد الجماعة. هذا الاختلال الذي مس التوازن الداخلي للنظام الاقتصادي حسب الخبير الاقتصادي المغربي كانت له تداعيات خطيرة على مستوى الاندماج الاجتماعي، تمثلت في تفاقم ظاهرة الإقصاء على مستوى الشغل، وتطوير أجيال جديدة من الفقر والفقراء، وذلك بسبب أثر الثورة ما بعد الصناعية في تطور أشكال الأنشطة الاقتصادية، وما نتج عن ذلك، من التركيز أكثر على التكنولوجيا بدلا عن اليد العاملة، والإيذان بانتهاء عصر التشغيل الكامل بالتزامن مع ظهور أشكال جديدة لتعبئة العمل. أمام هذه المعضلة، يرى الكراوي أنه أصبح من الضروري إعادة طرح مسألة التشغيل في المجتمعات العربية من منظور جديد، يطبع مع الواقع، ويقبل إكراهاته، ويبحث عن خيارات جديدة، لتجاوز المستقبل الصعب الذي ينتظر الشباب في هذه المجتمعات، والمحكوم بعد قدرة النموذج الاقتصادي الحالي، لأسباب موضوعية، على التوفيق بين النمو والتشغيل التام لمجموع الساكنة النشيطة التي تلج الأسواق الوطنية للشغل. .. أزمة أنظمة الحماية الاجتماعية ويتوقف إدريس الكراوي في المستوى الثاني من أزمة النموذج التنموي على المسألة الاجتماعية، ويسجل إزاءها أربعة مظاهر خطيرة: 1 أزمة الأنظمة الوطنية للحماية الاجتماعية، بسبب تضاعف العجز المتزايد عن تمويل أنظمة التغطية الصحية والتقاعد وتعويض الأشخاص في وضعية بطالة، ومختلف أنواع التحملات الاجتماعية التي تخص الأشخاص في وضعية صعبة. 2 التفكك المتنامي للبنيات التقليدية للتضامن الاجتماعي، بسبب زعزعة استقرار العلاقات الأسرية والجماعية، وأثر هيمنة السوق في ذلك. 3 النقص المتزايد للموارد العمومية المخصصة للقطاعات الاجتماعية، وذلك في مقابل تزايد الطلب الاجتماعي، والذي صار يشكل ضغطا كبيرا على القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن والشغل والتغذية. 4 الاختلالات المالية الدورية التي ظهرت في صورة أزمات مالية دولية، والتي ترتب عنها توسيع دائرة الفقر، وتعميق التفاوتات الاجتماعية، وتهاوي الطبقات الوسطى وانهيارها، مقابل إغراق الطبقات الميسورة في الاستهلاك المفرط أو الاستهلاك العبثي. .. مخاطر اقتصاد الريع والامتيازات على النموذج التنموي ويستكمل الخبير الاقتصادي في كتابه تحليل مظاهر أزمة النموذج التنموي، ويفكك المستوى الثالث من الأزمة، والذي خصصه لدراسة أثر اقتصاد الريع والامتيازات والفساد والرشوة وشيوع المضاربات على انهيار النموذج التنموي، ويستعرض بالتحليل حكامة المجتمع والاقتصاد، ومخاطر الممارسات التي نشأت على هامش النموذج التنموي الراهن، ونسفت قواعد المنافسة الشريفة، وأبطلت مبدأ تكافؤ الفرص بين الشركات والمقاولات وأيضا بين المواطنين، مما أنتج في المحصلة، ظاهرة سيادة سلطة المال، وانعدام الثقة في المؤسسات، وبروز أشكال غير مسبوقة من العنف الاجتماعي والحركات الاحتجاجية التي وصلت حد الثورة في عدد من البلدان خاصة في العالم العربي. .. نموذج تنموي جديد أو مخلفات خطيرة على الأمن الإنساني العالمي بعد تشريحه للمستويات الثلاثة المؤذنة بنهاية المشروع التنموي الراهن واستنفاده لأغراضه، حاول إدريس الكراوي أن يستقرئ عددا من الجهود والإسهامات التي برزت في الآونة الأخيرة للإجابة عن سؤال إمكانية بناء نموذج تنموي جديد، برهانات جديدة تقطع مع النموذج السابق، أو بالأحرى، تتجاوز الأعطاب التي أنتجت مع النموذج السابق، أو التي نشأت في هوامشه، وتعمقت ضمن مسار تحايلاتها عليه، ويستعرض بهذا الخصوص جهود الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين، فضلا عن مخرجات عدد من المؤسسات الدولية والإقليمية، في إنتاج أفكار جديدة أو معالم نموذج تنموي جديد، يسعى للتوفيق بين النجاعة الاقتصادية والإنصاف الاجتماعي، والتوزيع المنصف للثروة، والاستدامة، إلى جانب إشاعة قيم العدالة والحرية والكرامة. ويرى إدريس الكراوي أن الأفكار التي تمخضت عن هذه المؤسسات والفاعلين حول الأجيال الجديدة للنمو، تمحورت في أربع توجهات كبرى: تقوية أسس وقواعد الديمقراطية التمثيلية والتشاركية، وهذا يمثل الجانب المؤسساتي في الموضوع، باعتبار أن النموذج الديمقراطي هو الضمانة الحقيقية لحكامة مسؤولة تجمع المشاركة ونجاعة السياسات العمومية، وربط المسؤولية بالمحاسبة. إعادة الاعتبار لدور المقاولة وإعادة تعريف وتحديد وظائف الدولة والتأكيد على أهمية الاقتصاد الاجتماعي التضامني باعتباره إطارا لترشيد عوامل الإنتاج والاستعمال الأمثل للثروات، ولتوزيع أكثر إنصافا لهذه الثروات بين الفئات، أخذا بعين الاعتبار المعيار الاجتماعي والترابي والجنسي والعمري، وهذا التوجه يخص الجانب الاقتصادي والاجتماعي. مراعاة الأبعاد المرتبطة بالتغيرات المناخية، من خلال وضع أنماط إنتاج وتنظيم جماعي مبنية على قواعد تنمية مستدامة، تستحضر مصالح الأجيال القادمة، ويخص هذا التوجه الجانب البيئي. التركيز أساسا على الرأسمال اللامادي وخاصة الرأسمال البشري، وعلى الثقافة والقيم وتدبير الحقل الديني، نظرا للأهمية الأساسية التي يشغلها هذا البعد، ودوره في بناء نماذج تنموية منسجمة مع الخصوصيات التاريخية والحضارية للأمم. وينتهي الكاتب في دراسته، إلى تسجيل خلاصة مركزية، يرى فيها أن المنظومة الدولية أصبحت في أمس الحاجة إلى التأسيس لنموذج جديد للتنمية، وأن أي تأجيل لذلك، سينتج عنه ضياع الفرصة أمام إمكانية الاستدراك وتصحيح المسار، وظهور مخلفات على أكثر من صعيد، قد تصل بالنظام العالمي إلى قطائع من الصعب التنبؤ بآثارها على الأمن الإنساني. هذا، وقد قسم الكاتب كتابه إلى أربعة فصول، تناول في الأول، التحديات التنموية المستقبلية، وخصص الفصل الثاني، لمناقشة رهانات الإنصاف الاجتماعي، فيما تناول الفصل الثالث، دور التكوين والقيم والحكامة التربية في التنمية. أما الفصل الرابع، فقد خصصه لدراسة بعض المظاهر الإقليمية والدولية للتنمية.