تودع الجزائر سنة 2019، التي كانت استثنائية بكل المقاييس، سنة زاخرة بأحداث ستظل عالقة بالذاكرة الجماعية، استهلت بحراك شعبي منقطع النظير، مطلبه الرئيسي التغيير الجذري وانتهت بتنظيم رئاسيات شهر ديسمبر، كان الفائز فيها عبد المجيد تبون. وسيظل تاريخا 22 فبراير و12 ديسمبر من 2019، محفوران في ذاكرة كل الجزائريين. الأول شكل انطلاقة لحراك شعبي قلب الموازين، كانت شرارته الأولى إصرار الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على الترشح لعهدة خامسة في ظل أزمة اقتصادية نتجت عن تهاوي أسعار النفط، المورد الأول للاقتصاد الوطني، والثاني عرف إجراء انتخابات رئاسية كانت خاتمة مسار من الوساطة والحوار بين السلطة والقاعدة، بعد تأجيلها مرتين. فمنذ فبراير المنصرم، يتواصل هذا الحراك الشعبي الذي يستمد صلابته ويشحذ قوته من عاملين أساسيين: سلميته التي أبهرت الجميع والتي تمكن من الحفاظ عليها حتى مع مرور الوقت، وإلحاحه على النأي بالوحدة الوطنية عن كل الاختلافات والانشقاقات. فعلى مدار 11 شهرا من المسيرات الشعبية السلمية، خلقت الجماهير ديناميكية جديدة أفرزها الوعي الجماعي الذي جعل كافة المطالب تأخذ اتجاها واحدا يمثل أولوية المرحلة: ”التغيير الجذري”، تمهيدا ل”الانتقال الديمقراطي والإصلاح الشامل”. ورفع هذا الحراك السلمي سقف مطالبه عاليا، فمن اعتراضه على ترشح الرئيس السابق ارتقت هذه المطالب إلى مشروع سياسي يرتكز على تغيير النظام ومحاربة الفساد بكل أشكاله ومحاسبة كل من كانت له يد في نهب أموال الشعب وتهريبها الى الخارج، أي باختصار التأسيس لجزائر جديدة لا مكان فيها للممارسات السابقة التي أدت إلى بتر الثقة بين الحاكم والمحكوم، وكل ذلك استنادا إلى المادتين 7 و8 من الدستور المكرستين لسيادة الشعب. الرئاسيات خلاصة حوار دون إقصاء لم تكن رئاسيات 12 ديسمبر عادية البتة، ليس فقط لكونها جاءت بعد أحداث متسارعة أدت إلى تأجيلها مرتان، بل أيضا بالنظر إلى المستجدات التي أحاطت بها، وأهمها إنشاء السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات وتعديل قانون الانتخابات. فبعد موعدها الأول، 18 أفريل، الذي كان قد أعلن عنه الرئيس السابق بوتفليقة قبل اضطراره للاستقالة تحت ضغط الشارع واستخلافه من طرف رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، وفقا لأحكام الدستور، تم تحديد الرابع من يوليوكتاريخ ثان ألغي هوالآخر بسبب “استحالة إجرائها”، حيث كان المجلس الدستوري قد قرر رفض ملفي الترشح المودعين لديه مع إعادة تنظيمها من جديد في حالة غير مسبوقة لم يتطرق لها القانون الأسمى للبلاد، مما دفع إلى الاستناد إلى روح الدستور للبت في هذا الوضع. وبالموازاة مع ذلك، قرر رئيس الدولة بن صالح استحداث هيئة وطنية للوساطة والحوار، كلفت بقيادة جولات من الحوار مع الطبقة السياسية وفعاليات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية ووجوه من الحراك الشعبي، تمخضت عن جملة من المقترحات أهمها مراجعة القانون المنظم للانتخابات والتأسيس لسلطة وطنية مستقلة للانتخابات، تتولى تسيير العملية الانتخابية من الألف إلى الياء، بعيدا عن أي تدخل من الإدارة. وبالفعل، انطلق المسار الانتخابي من جديد تحت إشراف السلطة المذكورة التي تعهدت منذ البداية بأن الاستحقاق الرئاسي ل 12 ديسمبر سيكون “في مستوى تطلعات الشعب”، بفضل “استقلاليتها التامة” وتطهير القوائم الانتخابية اعتمادا على التكنولوجيا الحديثة التي تجعل التزوير “من المستحيلات”، مثلما أكده رئيسها محمد شرفي أكثر من مرة. وعرفت هذه الانتخابات تنافس خمسة مترشحين على كرسي الرئاسة: الأمين العام بالنيابة للتجمع الوطني الديمقراطي عز الدين ميهوبي الذي نال -في آخر لحظة-دعم غريمه السياسي جبهة التحرير الوطني ورئيس “طلائع الحريات” علي بن فليس الذي خاض هذه التجربة لثالث مرة ورئيس “حركة البناء الوطني” عبد القادر بن قرينة عن التيار الإسلامي ورئيس “جبهة المستقبل” عبد العزيز بلعيد وعبد المجيد تبون الذي تقدم إليها كمترشح حر ليفوز في آخر المطاف بنسبة 58.13 بالمائة. ولم ينتظر الرئيس الجديد للجزائر طويلا للإفصاح عن نيته في معالجة الوضع المتأزم، حيث لم يتوان، غداة الإعلان عن نتائج الاقتراع، عن مد يده للحراك الشعبي من أجل حوار جاد، مع تأكيد عزمه على إجراء تغيير عميق على الدستور، تمهيدا لتأسيس جمهورية جديدة، مع إخضاع قانون الانتخابات للمراجعة. كما أكد أيضا على مواصلة حملة محاربة الفساد والمتورطين فيه مع التشديد على أن العفو الرئاسي لن يشمل هؤلاء. الجيش مرافق لمسار انتخابي لم يكن يحتمل التأخير رافق الجيش الوطني الشعبي العملية الانتخابية الخاصة باستحقاق 12 ديسمبر، مستندا في ذلك إلى أن “التمسك بالدستور هو عنوان أساسي للحفاظ على كيان الدولة واستمراريتها”. وفي هذا الإطار، اندرج تشديد الفقيد الفريق أحمد قايد صالح، نائب وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، على الأهمية القصوى التي تكتسيها هذه الانتخابات الرئاسية والذي كان مرده إلى أن الوضع أضحى “لا يحتمل المزيد من التأخير”. وجاءت انتخابات 12 ديسمبر، مثلما أكده المرحوم قايد صالح- “تجسيدا للتطلعات المشروعة” التي ما فتئ يعبر عنها الحراك الشعبي، كما أنها تمثل “الحل الدستوري” الذي تمسكت به المؤسسة العسكرية لإنهاء الأزمة التي ألقت بتبعاتها على الشأن العام للبلاد، وهذا من أجل استكمال بناء دولة الحق والقانون وفقا لمبادئ بيان أول نوفمبر1954. كما نبهت القيادة العليا للجيش، أكثر من مرة، من مخاطر الأجندة المتبناة من قبل “أطراف معروفة لا تمت بأي صلة لمصلحة الشعب الجزائري”، تعمل على تنفيذ تعليمات “أمليت عليها من طرف جهات معادية للجزائر قوامها بذل كل الجهود المغرضة من أجل تعطيل الحل الدستوري”. ولطالما اعتبرت القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي الشعب مصدر القوة في إحباط كل الدسائس وإفشال خطط المتربصين بالجزائر، حيث حرص الراحل الفريق قايد صالح على التذكير، دوما، بالصلة الوطيدة التي تجمع الشعب الجزائري بجيشه، مؤكدا أن هذا الأخير “برهن ميدانيا” على قدرته في تجسيد عمق هذه الرابطة وهو ما قابله التفاف الجزائريين حوله.