الاستغفار هو طلب الغفران من الله باللسان والقلب، وهو من الأذكار التي يعظم ثوابها لما يترتب عليه من محو الذنوب وغفرانها، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا}(النساء:110). وهو الاستغفار سبب لجلب النعم ودفع النقم, وتحصيل الرحمة والأرزاق، كما قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}(نوح:10-12). وقال تعالى فيما قصَّه عن هود عليه السلام أنه قال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}(هود:52)، وقال سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}(هود:3)، وقال: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(النمل:46). ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان كثير الاستغفار، لا يَدَع وقتاً يمر عليه دون ذكره لله عز وجل واستغفاره، ومع أنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهو العبد الشكور، والنبي الشاكر، والرسول الحامد، قال الله تعالى له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}(الفتح:2)، قال ابن كثير: “.. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله، لقد بين الله عز وجل ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} حتى بلغ: {فَوْزًا عَظِيمًا}(الفتح: 5) أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين”. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه. قالت عائشة : يا رسول الله! أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال صلى الله عليه وسلم:يا عائشة أفلا أكون عبْداً شكورا) رواه مسلم. ومن المشهور والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وسنته أن لسانه كان لا يفتر من ذكر الله عز وجل وكثرة استغفاره، والأحاديث الصحيحة الواردة في كثرة وكيفية استغفاره صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها: ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إنِّي لَأستَغفرُ اللَّهَ وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم) رواه أبو داود وصححه الألباني. وعن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن تسره صحيفته، فليكثر فيها من الاستغفار) رواه الطبراني وصححه الألباني. صيغة الاستغفار : الاستغفار يحصل بكل صيغة تدل على طلب المغفرة من الله عز وجل، والأفضل هو الصيغ المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: ما رواه مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا انصرف من صلاته قال: أستغفر الله ثلاثاً). وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من آخرِ ما يقولُ بين التشهُّدِ والتَّسليمِ (اللهمَّ اغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلمُ به مِنِّي، أنت المُقدِّمُ وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنتَ) رواه مسلم. وعن زيد بن حارثة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غُفِرَ له وإن كان فرَّ من الزحف) رواه الترمذي وصححه الألباني. وأما أفضل وسيد الاستغفار فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة) رواه البخاري. والأحاديث الصحيحة الواردة في كيفية وصيغ استغفار النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة . .. فائدة : ربما يتساءل أحد فيقول: لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر مع أنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم من الخطأ؟ ويستشهد بقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهمَّ اغفرْ لي خطيئَتي وجَهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلمُ به مني. اللهمَّ اغفِرْ لي جَدِّي وهَزْلي، وخَطئي وعمْدي، وكلُّ ذلك عندي. اللهمَّ اغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به مني، أنت المُقَدِّمُ وأنت المُؤخِّر، وأنت على كلِّ شيءٍ قدير) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليُغان (يغطى) على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) رواه مسلم. والجواب : في شرح سنن ابن ماجه: “والاستغفار منه صلى الله عليه وسلم مع أنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ليس لمغفرة الذنوب، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والتسليمات معصومون من الكبيرة والصغيرة على الأصح”. وقال النووي في شرحه لقول النبي صلى الله علي وسلم: (وإنه ليغان على قلبي): “قال القاضي عياض: قيل: المراد الفترات والغفلات عن الِذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل عدَّ ذلك ذنباً، واستغفر منه، قال: وقيل هو همه بسبب أمته، وما اطلع عليه من أحوالها بعده، فيستغفر لهم، وقيل: سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم، ومحاربة العدو ومداراته، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال، فهي نزول عن عالي درجته، ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى، ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه، فيستغفر لذلك”. وقال القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}(غافر:55). “قيل: لذنب أمتك حُذِفَ المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: لذنب نفسك على من يُجَوِّزُ الصغائرَ على الأنبياء. ومن قال لا تجوز قال: هذا تعبد للنبي عليه الصلاة والسلام بالدعاء، كما قال تعالى: {وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا}(آل عمران:194)، والفائدة زيادة الدرجات وأن يصير الدعاء سنة لمن بعده”. وقال ابن حجر في فتح الباري: “وقال عياض: يحتمل أن يكون قوله: (اغفر لي خطيئتي)، وقوله: (اغفر لي ما قدمتُ وما أخَّرْتُ) على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع والشكر لربه لما علم أنه قد غُفِرَ له”. الاستغفار دعاء وقربة إلى الله تعالى، وكثرة استغفاره صلى الله عليه وسلم التي وردت في أحاديث كثيرة صحيحة وهو مغفور ما تقدم من ذنبه وما تأخر، إنما ذلك من أجل العبادة والزيادة في درجاته، والتعليم لأمته ليقتدوا به في كثرة استغفاره، قال النووي: “وَاسْتِغْفَارُه لإِظْهَار الْعُبُوديَّة والافْتقار ومُلازمة الخشوع وشُكْراً لِمَا أَوْلاه”، وقال القسطلاني في “إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري”: “كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك الاستغفار إظهاراً للعبودية، وافتقاراً لكرم الربوبية، أو تعليماً منه لأمته، أو مِن ترك الأولى، أو قاله تواضعاً، أو أنه صلى الله عليه وسلم لمّا كان دائم الترقي في معارج القرب، كان كلما ارتقى درجة ورأى ما قبلها دونها استغفر منها”.