يمكن القول إن ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس نهايات العام 2010، شكلت منعطفا تاريخيا مهما في تاريخ المنطقة العربية والإسلامية، فقد طوت نظاما سياسيا بالكامل وأسست لمرحلة جديدة من التشكل السياسي الذي لم تتضح معالمه بعد. ولقد كان لافتا للانتباه في هذه الثورات، أن الشعوب كانت سباقة في أخذ زمام المبادرة وإعادة افتكاك حقها في تقرير مصيرها، واتضح ذلك في عدم وجود قيادات لهذه الثورات الشعبية. لكن بمجرد سقوط عدد من الأنظمة حتى عاد التعويل مرة أخرى على النخب الفكرية والسياسية لقيادة المرحلة الجديدة، وهي مرحلة مازالت تتشكل بالتفاعل بين مختلف القوى السياسية والفكرية والاقتصادية، وأيضا بين قوى الداخل والخارج.. ضمن هذا الإطار يأتي كتاب “الشباب العرب من المغرب إلى اليمن أوقات الفراغ الثقافات والسياسات”، الذي يعرض له الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني ضمن أربع حلقات، ويسعى من خلاله، ليس لفهم ميكانيزمات ثورات الربيع العربي، التي مازالت عواصفها لم تهدأ بعد، وإنما أيضا للبحث عن آفاقها السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية. .. الشباب العربي يقود مرحلة التحول مع بداية ربيع الثورات العربية في 2011، برزت قوة جديدة في المجتمعات العربية لعبت دور المحرك الرئيس في هذه الحركة الاحتجاجية وفي قيادتها، حتى سقوط العديد من الأنظمة الديكتاتورية في كل من تونس ومصر وليبيا، إنها الحركة الشبابية، أي جيل الشباب الأكثر اطّلاعاً، والذي يملك في معظم الأحيان إمكانية الولوج إلى وسائل الاتصالات الحديثة (شبكة الأنترنت)التي تتيح التواصل من فرد إلى آخر عن طريق الشبكات من دون المرور بوساطة الأحزاب السياسية (المحظورة في مختلف الأحوال). هذه القوى الاجتماعية الجديدة، تتمثل في الحركة الشبابية المتكونة من المتعلمين والجامعيين التونسيين والمصريين والليبيين واليمنيين والجزائريين والسوريين العاطلين عن العمل، التي وظفت ثورة وسائل الاتصالات الحديثة، في عملية التعبئة والحشد للمظاهرات التي عمت معظم المدن في العديد من البلدان العربية بسبب البطالة الضاغطة التي يعاني منها مئات الآلاف من المتخرجين من الجامعات من دون عمل، ناهيك عن متخرجي المعاهد والعاطلين عن العمل من دون شهادات المؤهلات العلمية، وتعاظم الإحساس بالظلم الاجتماعي الناجم من حالة الفساد التي عرفتها معظم الدول العربية، واستئثار حفنة قليلة من المستفيدين من الأنظمة الديكتاتورية السابقة بجزء هام من الاقتصاد الوطني في قطاعات متنوّعة مثل البنوك والصناعة والعقارات. فهذه الفئة الاجتماعية الشبابية الجديدة وليدة الأنظمة العربية، ووليدة عجزها في آن معاً. لقد احتلّ هؤلاء الشباب الساحات في كل من تونس العاصمة والقاهرة وصنعاء والمنامة، ورأيناهم يتظاهرون وهم يرفعون لافتات ملونة، وينشطون على الإنترنت، وأحياناً يمتشقون السلاح. لقد جسّد هؤلاء الشباب، رجالاً ونساء، انتفاضة شعوب بدأت مسيرتها، رافعة شعارات الحرية والعدالة. في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: “الشباب العرب من المغرب إلى اليمن أوقات الفراغ، الثقافات والسياسات”، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، يقدم فيه الباحثان لوران بونفوا ومريام كاتوس، المتخصصان الفرنسيان في العلوم السياسية وفي شؤون العالم العربي، ويعملان في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية (CNRS) على التوالي في مركز الدراسات والأبحاث الدولية (CERI) وفي معهد البحوث والدراسات عن العالم العربي والإسلامي (IREMAM)، مقاربات مختلفة عن واقع الشباب العرب، ذكوراً وإناثاً، الذين أتاح لهم مؤلفو هذا الكتاب، عام 2013، فرصة التعبير، فهم يقطنون في ثمانية عشر بلداً، وسط بيئة تنطق غالبيتها بالعربية، لكنها متنوّعة الثقافات والرقع الجغرافية. فمن سائح يزور أوروبا بعد أن أضجره الخليج العربي، إلى لاجئ فلسطيني لا يحلم إلاّ بمغادرة المخيم الذي يقطنه، إلى جوّال بغدادي يتلمّس الجدران المذهبية لمحبسه المديني، إلى ميليشياوي ليبي يكتشف، في المقاهي التي طالما كانت عصيّة عليه، مغريات تنشئة اجتماعية مغايرة للتنشئة الحربية، إلى “حيطيين” (مصطلح يستخدم في الجزائر ويقصد به مجموعات من الشباب في الشارع وهم يتكئون على الجدران لساعات طويلة، وفي ذلك إشارة على التهميش والبطالة) جزائريين يعوذون بالتزمت الديني للتخلص من الضائقة المعيشية، إلى فنائين ورياضيين… لكل من هؤلاء تطلّعاته ومساراته التي يصعب إيجاز التباينات في ما بينها. تبعاً لذلك، يقول فرانسوا بورغا كاتب مقدمة هذا الكتاب: “فمع الشباب العرب، يُستعاد الأمل بصورة مخادعة عن طريق رؤية ذوبان هذه الردات الوراثية، الثقافية ، وكذلك الدينية، التي طرحت، منذ زمن بعيد، إشكالية التعايش بين الضفة الشمالية والضفتين الجنوبية والمشرقية للبحر الأبيض المتوسط العربي”. إن ما يؤكّد ذلك بوضوح هو الاستجواب الذي أجري لدى المعنيين بالأمر للوقوف عن كثب على مُعاشهم. فالشباب العرب، بين بلد وآخر وبين شريحة اجتماعية وأخرى، يفتقرون إلى التجانس في أنماط عيشهم. وقد تتّصف أوقات فراغهم بأنها انتهاكية، كتفحيط الشباب السعوديين بسياراتهم، واسترجال شقيقاتهم “البوية”، أو الجرأة الذكورية لدى الفتاة التونسية، أو التفلت من الضوابط الأخلاقية لدى بعض الطالبات المغربيات. بيد أن ثمة ما يفوق ذلك. فهؤلاء الشباب يرفضون تحجيمهم إلى مجرّد ردة وراثية، ثقافية كانت أم إيديولوجية، بخاصة تلك الردات التي تسهم في تشكيل ثنائيات على غرار (إسلاموية / علمانية أكثر منا شعبية” بورجوازية حتى) غالباً ما تفرض نفسها على الإعلام كأدلة بدهية، كصفات بدهية. ولحسن الحظ، يذكّرنا المؤلفون بأن “الممارسات في أوقات الفراغ المتمحورة حول الدين تنأى بنا عن مقاربة تبسيطية تضع “فئتين من الشباب” على طرفي نقيض، الأولى طالبية وبورجوازية، والثانية كادحة وشعبية. وهذا ما يذكّرنا بقول بياربورديو “الشباب مجرد كلمة” (ص 7 من المقدمة). .. تفكيك الصور النمطية للشباب العربي ليس من السهل تعريف “الشباب” جمع شاب. وحتى وقت قريب، لم يكن التشخيص الذي يتناول الشباب يبشّر عموماً بالتفاؤل. وإذا كان التحوّل الديموغرافي قد بدأ منذ عدة عقود في معظم البلدان، إلا أنه راح يتم وفق إيقاعات متفاوتة: لقد تراجع معدل الخصوبة لدى التونسيات بنسبة 70% خلال خمسين عاماً (من 7.18 أولا للمرأة الواحدة عام 1960 إلى 2.04 عام 2010 )، بينما تراجع بنسبة 30% فقط في اليمن (من 7.29 عام 1960 إلى 5.2 عام 2010). وتتميز المجتمعات العربية، التي تلي مباشرة مجتمعات جنوب الصحراء الإفريقية، بأنها مجتمعات فتية: إنَّ نصف سكان اليمن تقريباً لا تتجاوز أعمارهم الستة عشر عاماً، في حين أنَّ النسبة نفسها من سكان قطر، البلد العربي الأكثر “هرماً”، هي في عمر يقلّ عن ثلاثين عاماً. وعلى سبيل المقارنة، يصل متوسط العمر في فرنسا أو اليابان على التوالي 39.7 و44.6 سنة. ونستشف من خلال هذه الأرقام وجود ضغط في هذه البلدان على أسواق العمل والسكن وقطاعات الصحة والتعليم. وجميعها ميادين ذات أوضاع “حرجة. أثناء الإطاحة، عام 2011، بأربعة حكام استبداديين عرب استأثروا بالسلطة طيلة عقود بلا شريك، أصبح “الشباب العرب” الأبطال العصريين في نظر “الساخطين” في العالم أجمع. لقد أصبح بعضهم حملة ألوية هذه الحقبة التاريخية. فاليمنية توكّل كرمان، من مواليد 1979، حازت بالتقاسم جائزة نوبل للسلام لعام 2011. أما المدونة التونسية لينا بن مهني، المولودة عام 1983، ومؤلفة كتاب فتاة تونسية الذي لقي نجاحاً كبيراً، فقد أصبحت في فترة معينة ملهمة الثورة. كذلك اختارت مجلة تايم الأميركية المعارض المصري وائل غنيم، من مواليد 1980، وهو موظف مصري في شركة غوغل وناشط معارض عبر شبكة الإنترنت، ليكون الأول في قائمة المئة شخصية الأكثر تأثيراً في العالم. أما الناشطة المصرية علياء ماجدة المهدي، من مواليد 1991، فقد قامت بنشر صورة عارية لها في مدوّنتها احتجاجاً على التزمت الديني والسيطرة الذكورية. ثمة شباب آخرون راحوا يبشّرون بقدوم الثورة ويدافعون عنها بكل ما لديهم من قوة. أما شهداء هذه الانتفاضات، الذين بقوا بمعظمهم مغمورين، فقد بكتهم أسرهم وأحياؤهم ومدنهم. وتحوّل بعضهم إلى رموز للثوار على امتداد العالم العربي وما عداه. نذكر منهم محمد البوعزيزي، المولود عام 1984، الذي كانت تضحيته بنفسه في سيدي بوزيدبتونس الشرارة التي أشعلت البارود، وخالد سعيد، المولود عام 1982، الذي قضى تحت تعذيب الشرطة المصرية في الإسكندرية. وغالباً ما يفضل الشباب بصيغة الجمع طبعاً إعادة تفسير موروثهم الاجتماعي والثقافي، وإعادة بنائه وتوليفه بدلاً من دفنه. وتتغير ناقلات التنشئة الاجتماعية وأساليبها ربما أكثر من مركزيتها التي لا مفر منها لدى الانتقال إلى سن الرشد. فلم تكن الثورات التي انطلقت في عدة بلدان عربية، ثورات إسلامية، ولم يكن الإخوان المسلمون المطلقون لشرارتها، ولا السائرون في صفوفها الأولى. لأنَّ الشباب العرب لم يستعينوا بالإسلام كما فعل أسلافهم في الجزائر في أواخر الثمانينات، ويعبّرون قبل كل شيء عن رفض الديكتاتورية البوليسية والعسكرية الفاسدة ويرفعون مطلب الحرية والديموقراطية. لا يعني هذا بالتأكيد أنَّ كل الذين قاموا بالثورة هم علمانيون، بل يعني ببساطة أنهم لا يرون في الإسلام أيديولوجيا سياسية قادرة على خلق نظام أفضل: إنَّهم في مساحة سياسية علمانية. وما ينطبق على الأيديولوجيا الإسلامية، ينطبق أيضا على الأيديولوجيات الأخرى، فالثورات العربية لم تكن ثورات يسارية، ولا أيضا ثورات قومية، رغم أن شباب الثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن هم قوميون (يظهر ذلك من خلال الأعلام الوطنية التي يلوّحون بها) لكنهم لا ينادون بالقومية العربية التي اختفت من الشعارات. .. الديمقراطية بديلا عن الاستبداد ومع انتهاء المواجهة بين “الشرق والغرب” التي كانت تحدد البنية الجيوسياسية للدول العربية، وارتجال الدول المانحة إيعازاً ديمقراطياً لم يحسن التحكم به من جانب الرؤساء العرب، أثَّرَ الإطار الاقتصادي الجماعي الليبيرالي المتفلت الجديد، وأعمال الخصخصة المتوحشة، وبرامج الإصلاح البنيوي المتفككة المتسارعة، والعولمة الرأسمالية الجديدة، وثورة التكنولوجيا الإعلامية (التي تتطلع لإحلال الحاسوب محل العقل البشري وهذه “العقلنة العامة” لأدوات الإنتاج تتسارع “في الصناعة كما في الخدمات” بفعل التوسع الكبير في الشبكة الجديدة للاتصالات)، في السياسة، والأنظمة السياسية أساساً لناحية نشر الديمقراطية، إذ نرى خلال العقود الأخيرة أن الديمقراطية حلت مكان أنظمة استبدادية عدة، في أوروبا أولاً، (مثال أسبانيا والبرتغال واليونان)، وفي أمريكا اللاتينية ثانياً (حيث زالت الأنظمة العسكرية في معظم دول أميركا الجنوبية)، ثم أيضاً بعد انهيار الشيوعية ثالثاً. ففي أمريكا اللاتينية كما هو في أوروبا الشرقية والدول التي برزت إلى الوجود نتيجة لتصدع الاتحاد السوفييتي، وفي إفريقيا كما في جنوب شرق آسيا، يتم “التحول الديمقراطي” على قدم وساق وبأعداد كبيرة بحيث أصبحت الديمقراطية التي كنا نادراً ما نراها هناك قبل عشرين عاماً من الآن هي النظام السياسي الأكثر انتشاراً، ولكن في كل مكان، هذه الديمقراطية تتلازم اليوم مع الخصخصة وغالباً مع الاستغلال والفساد. يقول الباحثان لوران بونفواوميريام كاتوس، بشأن مقاومة العالم العربي لموجات نشر الديمقراطية، عقب نهاية الحرب الباردة، وسقوط الأنظمة الشمولية في المنظومة السوفييتية: “فيبدو ظاهرياً أي العالم العربي أنه منغلق على “العولمة السعيدة”، كما تنصّ عليها المرجعية الليبرالية الشائعة. وبالتالي، عمدت بعض وسائل الإعلام وبعض الخبراء، من عرب وغيرهم، إلى الترويج لمقولة مفادها أنَّ المنطقة مصيرها ركود تعمُّ فيه حالات البؤس، مستخدمة في ذلك، وبإفراط، صورًا نمطية سلبية للمنطقة تعرّضت مرات عدة للتفكك. ولم تفلح حوادث 11 سبتمبر 2011، ولا الحرب على الإرهاب التي أطلقها الرئيس بوش في معالجة الأمور”. كذلك، انتشرت بعض تمثيلات ورسخت في المخيلات الجمعية، لا سيّما الغربية منها، كتمثيلات الإرهابي الكامن داخل أي “شاب عربي”. وتبدو الأجيال العربية الجديدة وكأنها معين لا ينضب من المجرمين المحتملين، بالرغم من كونها “متعلمة” و”متمدنة” و”عصرية”، لكنها أيضاً “معبّأة عقائدياً”، أو “محرومة” نتيجة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية” (ص 10 من الكتاب).