د ماهر جبر ** استاذ قانون التجارة الدولية رئيس قسم القانون كلية العمارة الجامعة بالعراق. يقول الكاتب الكبير مصطفى أمين (في حياتي أسماء كثيرة، مشهورون ومغمورون، نجوم عاشت في المجد، ونجوم كالشهب سقطت في زوايا النسيان، وحياتي هي الناس، وأحسب أن الفرق بين الجنة والجحيم، أن الجنة فيها ناس، وأن الجحيم خالية من الناس). هؤلاء المغمورون الذين سقطوا في زوايا النسيان، هم قضيتي الأولى في هذه السلسلة من المقالات، محاولاً ازاحة الركام عن كفاحهم وبطولاتهم، حتى نعيد لهم بعض من حقهم الضائع، ولا أخفي القول أن ما دعاني لكتابة هذه المقالات، هو ما لاحظته أثناء عملي من وجود فئة من العاملين، تقوم بعملها على خير وجه، دون تطلع الى منصب أو جاه، فاذا نجح العمل نجح بهم، ونسب النجاح الى غيرهم، واذا أخفق فبغيرهم، وربما نسب الاخفاق لهم، وكل ذلك لا يثنيهم عما يقومون به، ثم نظرت من حولي فأدركت أن هذا ليس حال عملي فقط، انما هو حال مجتمعنا، بل مجتمعاتنا العربية جميعاً، هذا على نقيض الأمم الأخرى التي انما بلغت ما بلغته من تقدم ورقي، الا لتطبيقهم مباديء الاسلام وتعاليمه، وان كانوا غير مسلمين، وما كان سبب تخلفنا وارتياد الأمم كلها لظهورنا، الا بابتعادنا عنه وعما أمرنا به، ولو كنا مسلمين. ولما كنت مهتماً بقراءة التاريخ، فوجدت أن ملاحظتي هذه محققة بأجل صورها بين ثنايا الكتب، وصفحات التاريخ، وتساءلت عمن قاوم الغزاة والطامعين اللذين جاءوا الى مصر على مر العصور؟. هل فقط من عرفناهم من أسماء اشتهروا وذاع صيتهم، كعمر مكرم، الشيخ السادات، الشيخ عبدالله الشرقاوي، أو محمد كريم، عرابي ورفاقه، مصطفى كامل، محمد فريد، سعد زغلول والنحاس، وغيرهم كثير؟. أم أن خلف هذه الأسماء المرفوعة الهامة، أسماء كثيرة ربما كانوا أكثر منهم زعامة، لكنهم آثروا الاختباء وراء أحلامهم، التي تمثلت فقط في تحرير وطنهم من المستعمرين، متناسين الأمجاد الشخصية، والصيت الزائف، وقاموا ببطولات خارقة لا يصدقها عقل، ولم يذكرهم أحد ؟ . لقد قدموا أرواحهم فداء لنا، نعم وهبوا لنا حياتهم وجعلوها امتداداً لنا كي نعيش الحياتين معاً، وكما يقول فيكتورهوجو (احترقوا لينيروا لنا الطريق)، وكما يحدث في كل زمان فالشريف هو من يدفع الثمن، والمنتفعون هم من يجنون المكاسب. فسلام على أرواحهم العطرة، وأجسادهم الطاهرة بين الثرى. فمن منا يعرف الشيخ الجوسقي شيخ طائفة العميان في الأزهر الشريف وموقفه من بونابرت، من يعرف الشيخ عبدالله الشبراوي، من يعرف مأمور بندر أسيوط أثناء ثورة 1919م الضابط محمد كامل الذي أعدم لموقفه المناصر للثورة، بل من يعرف مصطفى البشتيلي زعيم ثوار القاهرة أثناء الحملة الفرنسية، من يعرف حكاية دير مواس وابنها الشهيد الدكتور خليل أبوزيد؟ من يعرف العامل البسيط محمد علي فهمي من شهداء ثورة 19 وموقفه البطولي، من يعرف دولت فهمي؟، من يعرف؟، من يعرف؟، من يعرف؟؟؟. وكما أن هناك أشخاص مغمورون، استحقوا أن يكونوا نجوماً زاهرة، فان هناك أيضاً أماكن مجهولة، كان لها دور بارز حيث سطرت بدماء أبنائها، أحرف من نور في صفحات الوطن وسجل البطولة الخالد. نعم انها عبقرية المكان كما يقول العظيم جمال حمدان، فتاريخنا المجيد لا يقتصر فقط على ما قامت به الاسكندرية، القاهرة من تضحيات، انما يتحقق ذلك التاريخ في أعظم صوره، في كفاح قرى مصر ونجوعها وكفورها، على طول خط سير الحملات التي وطأت هذه الأرض، فما من قرية أوكفر أونجع مر به هؤلاء الطغاة، الا وأذاقهم شبابها كل صنوف العذاب، وما من ثورة قامت الا وكان لها أبطالها اللذين لا يعرفهم أحد، وهانحن الآن نفتش بين سطور التاريخ، لنزيل ركام السنين عن هذه الأسماء الخالدة، ليكونوا عظة وقدوة ومثلاً لكل الأجيال، وليعرف أبناء هذا الوطن كم ضحى أجدادهم وآبائهم في ليال حالكة الظلام، ليصنعوا لهم فجراً منيراً، ونهاراً مشرقاً. ولتكن صورتنا المضيئة الأولى عن دولت فهمى التي لا يعرفها أحد. جاء ذكرها في كتاب مصطفى أمين (أسرار ثورة 19 الكتاب الممنوع) ولولا ذلك ما سمع بها أحد . بنت مصرية من محافظة المنيا، تعمل ناظرة مدرسة الهلال الأحمر للبنات بالقاهرة. وكانت لها قصة مع الطالب عبد القادر شحاتة، ففي ظل الأحتلال البريطاني أصدر سعد زغلول و الجهاز السري لثورة 19 بقيادة عبد الرحمن فهمي قراراً بأنه لا يجوز لأي مواطن مصري أن يقبل تشكيل الوزارة أو أي منصب وزاري تحت حماية الاحتلال، والا اعتبر خائناً للوطن، الا ان " محمد شفيق باشا قبل تكليفه" بوزارات الأشغال والحربية والزراعة، فما كان من التنظيم السري الا ان كلف عبد القادر شحاتة لإرهابه أوقتلة، وكان عبد القادر ذي الواحد وعشرين عام شاباً ثورياً له دور كبير فى طبع المنشورات وإشعال الثورة في المنيا . وامتثل عبد القادر شحاته للأمر وقام بإلقاء القنبلة علي الوزير لكنه لم يمت، كما اعتقد عبد القادر لأن الجهاز السري للثورة لم يرد القتل إنما الإرهاب فقط، وتم إلقاء القبض عليه واعترف بأنه كان ينوي قتل الوزير بسبب قبوله الوزارة وأراد المحققون معرفة مكان وجوده قبل الواقعة الا انه رفض الأعتراف خوفاً من كشف أعضاء الجهاز السري وسقوطهم في يد السلطات الإنجليزية،لأنه كان يبيت في منزل أحمد ماهر " رئيس وزراء مصر فيما بعد " ومساعد عبد الرحمن فهمي رئيس الجهاز السري، وخاف عبد الرحمن فهمي، أحمد ماهر من اعترافه تحت وطأة التعذيب، وأنكر عبد القادر وجود شركاء له، وقام رجال المخابرات البريطانية بتعذيبه تعذيبًاً شديدًاً ليعرفوا سؤالًاً واحدًاً هو: أين أمضى عبد القادر الليلة السابقة على ارتكاب الجريمة؟ كان عبد القادر يجيب عن كل الأسئلة إلا هذا السؤال! وخشي الجهاز أن ينهار تحت التعذيب فبعثوا إليه برسالة تقول: ان سيدة اسمها دولت فهمي ناظرة مدرسة الهلال الأحمر للبنات ستتقدم للشهادة وتقول إنك كنت تبيت عندها في بيتها بالحلمية الجديدة. وأمام النائب العام تظاهر عبد القادر شحاته بالامتناع عن الإجابة، لأنه يخشى أن يذيع سرًّا يتعلق بامرأة خوفاً على سمعتها! فوعده النائب العام أنه لن يخبر أحد. فأخبره أنه كان يبيت عند ناظرة مدرسة الهلال الأحمر للبنات دولت فهمي. ولم يفي النائب العام بوعده، و أمر بالقبض فورًاً على دولت فهمي. وكانت سيدة رائعة الجمال، على وجهها برقع أبيض شفاف لا يخفي أسنانها اللؤلؤية ولا شفتيها شديدتي الأحمرار، ممشوقة القد. كمايقول الأستاذ مصطفى أمين وفوجئ عبد القادر بهذا الجمال الفتان وبالسيدة تهجم عليه وتقبله وتلتصق به رغم قيود الحديد في يدها، وتقول له بصوت يرتجف من الحب واللوعة: يا حبيبي يا روحي يا عبد القادر. وسأله النائب العام: هل هذه هي السيدة التي كنت تبيت عندها؟ وإذا بدولت تقول له اعترف يا حبيبي لا تحاول أن تحمي سمعتي، إنني اعترف أنك كنت تبيت في بيتي وأطلب أن يسجل هذا الاعتراف في التحقيق. وصدر الحكم على عبد القادر بالإعدام شنقًا وخفف إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. وعاش كل أيامه بعد ذلك في السجن لايفكر في شيئ الا معشوقته التي هام بها عشقًا، وكان يعد الأيام متمنياً الخروج من السجن ليتزوجها، فعمره 21 سنة والحكم الصادر ضده قد ينتهي بعد 15 سنة بحسن السير والسلوك وعنها سيكون عمره 36 عامًا، وعمرها 38 وتكون الفرصة كبيرة لحياتهم معاً بعد الزواج . ثم كان نجاح الثورة وتشكيل الوزارة برئاسة سعد زغلول فأمر بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، بعد أن أمضى عبد القادر أربع سنوات في السجن لم ينسى دولت فهمي لحظة واحدة.وفي يوم 11 فبراير 1924 أفرج عن عبد القادر الذي خرج مسرعاً تسوقه قدماه إلى مدرسة الهلال لمقابلة دولت فهمي، لكنهم أخبروه أنها تركت المدرسة منذ أربع سنوات، وعرف أنها من إحدي قرى المنيا، فذهب إلى هناك وسأل عنها كل فرد في القرية حتى العمدة وشيخ البلد فأنكرا معرفتهما بها، ثم ذهب لبيت أخيها فأنكر أن تكون له أخت بهذا الاسم. فعاد إلى القاهرة، وسأل أعضاء الجهاز السري للثورة فطلبوا منه ألا يسأل عليها مرة أخرى. وأخيرًاً علم أنها راحت ضحية وشاية كاتب التحقيق بالنيابة حيث كان من نفس قريتها وأنه أبلغ أهلها باعتراف ابنتهم بأنها كانت تربطها علاقة آثمة بالطالب عبد القادر شحاتة، وأنه كان يبيت عندها كل ليلة. وسافر أهلها للقاهرة وشاهدوا اعترافها وتوقيعها على أوراق التحقيق ثم ذهبوا إلى مدرستها وأخذوها معهم بحجة العزاء في خالتها. وعندما وصلوا القرية أخذوها لزيارة قبر خالتها، وأثناء ذلك انقضوا عليها بالخناجر والسكاكين ليغسلوا عارهم دون أن يعرفوا أنها فدائية لولا ما فعلته لانكشف الجهاز السري وفشلت الثورة تماماً . الغريب في الأمر أن دولت فهمي كان يمكن الحفاظ على حياتها وإظهار براءتها، لو أن أحداً من أعضاء الجهاز السري للثورة كلف نفسه أو تم تكليفه من قبل عبد الرحمن فهمي بالذهاب إلى قريتها واطلاع أهلها على الحقيقة، ماذا كان يضيرهم لو فعلوا ذلك؟ أم أن الثورة تأكل أبنائها كما يقولون؟ ألا تستحق هذه السيدة أن تدرس قصتها لأبنائنا وخاصة في المراحل الأولى حتى يعرفون من ضحى من أجلهم وبمن يقتدون. ومن المؤسف حقاً أن هذه السيدة لا توجد لها صورة واحدة . ألا تستحق هذه الأسماء أن نزيل عنها تراب النسيان لنعيد لها بعض من حقها الضائع؛ لكن عزاءهم الوحيد أنا نحسبهم عند الله شهداء وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون. يقول شوقي أمير الشعراء. الناس صنفان موتى على قيد الحياة وآخرون ببطن الأرض أحياء . للحديث بقية مع صورة أخرى من تاريخنا المجيد.