منذ انشقاق حشد المرجعية الدينية من “هيئة الحشد الشعبي” وانضمامه إلى وزارة الدفاع، لم تعد خافية حدّة الخلافات بين تشكيلات الحشد الشعبي، إذ إن الفصائل الولائية تعمل وفق المشروع الإيراني، وبذلك يمتد وجودها العسكري إلى داخل المناطق السورية دعماً للنظام الحاكم فيها، كما أنها شنت ضربات صاروخية على القوات الأميركية داخل العراق، وتبنّت الثأر لمقتل زعيميها الإرهابيين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. تجاه هذا الوضع المستجد، فإن فصائل المرجعية الدينية المكونة من أربع تشكيلات هي “فرقة الإمام علي” و”أنصار المرجعية” و”فرقة العباس” و”لواء علي الأكبر” فإنها ترفض هذا النهج الذي يسير على حساب الصالح العام للعراق، إلا أن حقيقة الأمر لا تقتصر أبعاده على صورة هذا الطابع التقليدي، بل له خفاياه أيضاً، التي دفعت بالمرجع الأعلى في النجف علي السيستاني أن يوافق على قادة هذه الفصائل بالاجتماع مع وزير الدفاع نجاح الشمري، والتسريب الإعلامي عن مغادرتها صفوف الحشد الشعبي. ويمكننا سرد أهم الأسباب، أولاً، المخطط الأميركي الجديد الهادف إلى تدمير الفصائل المدعومة من إيران، بعد استهداف قواتها وقتل جنود أميركيين ومن القوات الدولية، وعجز حكومة بغداد تماماً من توفير مستلزمات الحماية لهم من جهة، وضعفها تجاه استفحال هذه الفصائل من جهة أخرى. ثانياً، تعيين المدعو أبو فدك، الرجل الأول في “كتائب حزب الله” العراقي، عن مسؤولية مقدرات الأمور في الحشد الشعبي، والذي يعني استمرار إيران بالتحكم في مسارات هذه القوة العسكرية، ما خلق توترات بين التشكيلات، التي لا تريد الزجّ بها في محاور وصراعات سياسية خارجية. ثالثاً، العملية السياسية التي دعمتها المرجعية الدينية منذ الغزو الأميركي عام 2003، وعلى مدى هذه السنوات الطويلة أثبتت فشلها الذريع إلى أبعد حدّ يمكن تصوره، ما يجعلها أن تتحمل المسؤولية تجاه الملايين من الذين يتبعونها ويستجيبون إليها. رابعاً، انتفاضة الشباب السلميَّة العارمة، والمتواصلة منذ سبعة أشهر ضدّ النظام السياسي الفاسد، ومواجهتهم بشتى أنواع القمع الوحشي من قتل وخطف واعتقال وتغيب وتعذيب تنفذها قوات حكومية وفصائل ولائية، والذي أحرج المرجعية الدينية، إذ إن معظم الذين أُريقت دماؤهم وجُرحت أجسادهم هم من الشيعة. ..الضغط الأميركي بعد الزخم العسكري الأميركي الهائل في مناطق عراقية وخليجية، والتسريب الإعلامي عن الاستعداد لتدمير الفصائل المدعومة من إيران، فإن مجلة “فورن بوليسي” ذكرت أن تصاعد التوترات بين القوات الأميركية في العراق والحشد الشعبي، إنما يعود سببه إلى تفاقم التوتر بين الولاياتالمتحدةوإيران، بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في مايو (أيار) 2018. أما صحيفة “ميدل إيست مونيتور”، فنقلت عن مدير الأمن الإقليمي في قسم الشرق الأوسط بمجلس المحيط الأطلسي كيرستن فونتينورز قوله، “إذا كانت الحكومة العراقية غير راغبة في التحرك ضدّ مثل هذه الجماعات عندما تهاجم القوات الأميركية، فإن القانون الدولي يسمح للولايات المتحدة بذلك، وإذا كانت الحكومة غير قادرة على العمل ضدّ مثل هذه الجماعات، فإنها تعترف بأنها لم تعد تحتكر استخدام القوة التي، بحسب بعض تعريفات، تنزع الشرعية عن الحكومة بالفعل، وسيكون هذا أيضاً بمثابة اختبار لأي حكومة عراقية مستقبلية في ممارسة سيادة البلاد.” وعن التغيير الجديد الذي تتبعه إيران باستحداث فصائل مسلحة خارج نطاق الحشد الشعبي، لضرب القوات الأميركية، منها ما يسمى “عصبة الثائرين” عن (رابطة الثوار)، الذي أعلن مسؤوليته عن الهجوم الصاروخي على معسكر التاجي في شمال بغداد في 12 مارس (آذار) الماضي، والذي أسفر عن مقتل جنديين أميركيين وثالث بريطاني من قوات التحالف، فيرى الأكاديمي ريكاردو ريديلي من جامعة كاتوليكا ديل ساكرو كوور في ميلانو أنه “من الواضح أن فيلق الحرس الثوري الإسلامي كان عليه أن يتكيف مع الوضع الجديد، وأن إنشاء أو تغيير أسماء الميليشيات والجماعات الجديدة يعكس الحاجة إلى تجنب الانتقام الأميركي”. وذهب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى أبعد من ذلك، إذ كتب على حسابه في موقع “تويتر” قائلاً، “ينتهي حظر الأسلحة المفروض على إيران، أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم، بعد ستة أشهر من اليوم، يجب على مجلس الأمن الدولي تمديد الحظر قبل تصاعد العنف الإيراني، وبدء سباق تسليح جديد في الشرق الأوسط.” وهذا يعني أن الضغط الأميركي سيتواصل على إيران، بل وسيتصاعد أكثر من ذي قبل، فكما عملت الولاياتالمتحدة في الأسابيع القليلة الماضية في تحشيد عسكري ضخم في العراق ومنطقة الخليج العربي، فإنها الآن ترسل إشارة واضحة لإيران وإلى العالم أجمع، بأن انتهاء حظر الأسلحة على إيران في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، يجب أن يتم تمديده تفادياً من “سباق تسليح جديد في الشرق الأوسط” على حد قول بومبيو. كما لم يفت بومبيو من تذكير العالم بأفعال إيران، إذ “في العام الماضي، أطلقت إيران صواريخ بالستية على جيرانها، وزرعت ألغاماً واستولت على ناقلات النفط، وهرّبت الأسلحة إلى مناطق النزاع، وأسقطت طائرة ركاب مدنية، لا يمكننا المخاطرة بشراء إيران أسلحة أكثر تقدماً ونقل ترسانتها إلى جهات فاعلة غير مسؤولة.” ومثل هذا الضغط الأميركي الواضح، بصورة أو أخرى، يؤدي إلى المزيد من الخلافات داخل تشكيلات الحشد الشعبي نفسه، خصوصاً أن الحشد العشائري لا يبتعد كثيراً عن موقف حشد المرجعية الدينية، ومع استمرار وإصرار الشباب الثائر ضد النظام السياسي الذي ينخره الفساد نخراً عميقاً، ما يجعل مسألة انشقاقات الحشد ليست حالة عابرة، بل نتيجة لوضع مضطرب ومتفاقم يترقب ما ستسفر عنه الأيام أو الأسابيع المقبلة. إندبندنت عربية