اتخذ مضمار «تاريخ الأفكار السياسية» مسارين متناقضتين تماماً في النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي. اندفع أحدهما مع قزحيا برلين (1909-1997)، وفي غمرة الحرب الباردة، للذهاب بعيداً في المعادلة بين «الشموليتين»، الشيوعية والنازية، والتفتيش لهما عن جذر مشترك في أفكار القرن الثامن عشر، بخاصة في تركة الأنوار الفرنسية مع فولتير وروسو، وحمّل كاتب «العقد الإجتماعي» الوزر الأكبر. فرّق برلين، اليهودي اللاتفي المولد ثم البريطاني فالأمريكي الجنسية، بين «حرّية سياسية» موجودة في التقليد الليبرالي الإنكليزي، وتدرك الحرية على أنّها تفلّت من شيء ما، وبين «حرّية ايجابية» لا يعود مناطُها تحديد الحالة القسرية التي يراد التفلّت منها، فتصير حرّية مكتفية بذاتها، تتعسّف في مسعى نقل صلاحية «الخلق من عدم» من الإله إلى الإنسان. عدّ برلين هذه «الحريّة الإيجابية» بمثابة تصوّر يوتوبي وتسلّطي في آن عن الحرّية. فروسو عنده أزعر عبقريّ برجوازي صغير تسبّب في تحويل الحرية إلى مصدر للنزعات الهندسية الإجتماعية الشموليّة، ومسخها إلى حرية لا تفقه من معنى للتقاليد، وللإختلاف بين الثقافات، أو للتدرّج في الإصلاح، وتستبدّ معها الأفكار «المجرّدة» بكل ما هو محسوس وملموس. من هنا، طوّر قزحيا برلين مقاربة مزدوجة. رأى البلاء في المقلب اليعقوبي من الثورة الفرنسية، كما رآه في فكر جوزيف دو ميستر المعادي لها. يعاقبة الثورة طبّقوا حرفياً أفكار روسو غير القادرة على إدراك الحرّية والمساواة إلا على قاعدة نفي التعدّدية والتنوّع بين البشر. أما دو ميستر فطعن بحاكمية البشر من أساسها، لكنه نظر إلى الثورة، عدوّته، كشرّ ضروريّ، كعقاب إلهيّ عادل ضدّ النظام الملكي القديم الذي قدّم كل التنازلات لحاكمية البشر. عادلَ برلين بين كل من روسو ودو ميستر كأبوين بعيدين للتوليتاريا سواء حين تتخذ شكل ثورة (الشيوعية) أو حين تتخذ شكل ثورة مضادة (النازية). في المقابل، أعاد قزحيا برلين اكتشاف التراث المتحفّظ على الأنوار، أو تراث الأنوار المضادة: فيكو في ايطاليا، وهردر في ألمانيا. ابتغى انتزاع هردر من التقليد المحتفي به في ألمانيا كأب للنزعة القومية، والذي بلغ أوجه مع النازية، وردّ الإعتبار له كمفكّر رفع راية الخصوصيات المحلية والثقافية، والمساواة بين الأقوام والشعوب، والإنصات للروح وللموروث، بالضدّ من نزعة الأنوار الفرنسية، ومعها عمانوئيل كانط في ألمانيا، للتعامل مع العقل البشري على أنه كونيّ وواحد في كل الأحقاب والأقاليم. بالضدّ من «اليونيفرسالي» (الكونيّ الكليّ) المجرّد. بوجه المرامي التنويرية لإعادة تأسيس المجتمعات على أساس متسق مع فلسفات الحق الطبيعيّ، قال أرباب الأنوار المضادة بالحقوق الملموسة، لا المجرّدة، الحقوق التاريخية، مع فارق أنّ بيورك في بريطانيا كان يشدّد بوجه التأسيس الإجتماعي من عدم على الإستمرارية المؤسسية، في حين أن هردر كان يشدّد على الإستمرارية الثقافية، وعلى «روح الشعب»، وعلى نظرة للأمة على أنه بمقابة جسد جماعيّ له روح عضوية واحدة. في الوقت نفسه، أصرّ برلين على عدم اخراج هردر كليّاً من الأنوار، بل اعتبر أن أنواره المضاده هي جزء من الفضاء الأوسع لمفهوم التنوير، ومتسقة مع النزعة الأنسنية -–المسيحية في عصر التنوير الألماني، بل قدّم برلين هردر على أنّه مطلق نزعات التصدّي للاستعمار والامبريالية في العصر الحديث، ما دام يقوم بالنسبية الثقافية التاريخية بين الشعوب، وليس بامتياز «تقدّم» حضارة على الأخرى. بالضدّ من مقاربة قزحيا برلين هذه، قبل أي شيء آخر، تبرز أهمية الأثر الذي سيتركه مؤرخ الأفكار الإسرائيلي زئيف سترنهيل الذي توفي مؤخّراً. يرتبط الجدل حول الأنوار والأنوار المضادة بالنسبة إلى سترنهيل في قسط وافر منه بتشخيصه للدولة العبرية نفسها على أنّ مآلها مرتبط بهذا الجدل. أما في مضمار «تاريخ الأفكار السياسية» بالتحديد فسترنهيل هو بمثابة «أنتي قزحيا برلين» قبل أي شيء آخر. انشغل سترنهيل سواء في أعماله حول فرنسا، الموضوعة بلغتها («موريس باريس والقومية الفرنسية»، و»اليمين الثوري» و»لا يمين ولا يسار: الأيديولوجيا الفاشية في فرنسا») أو حول «جذور اسرائيل: بين القومية والإشتراكية» المكتوب أساساً بالعبرية، ب»دراسة حال» لنطاقين مختلفين للصراع بين الأنوار والأنوار المضادة (ولنا عودة لهما في مقال آخر)، إلا أنّ زبدة نتاجه تتمثّل في كتابه المتأخر (2006) حول «الأنوار المضادة: من القرن الثامن عشر حتى الحرب الباردة». باختصار، يقيم سترنهيل مناقضة متواصلة بين تركتين: «الأنوار الفرنسية – الكانطية» في مواجهة الأنوار المضادة. الأولى، تنطلق من أن البشر لهم الحق في تشكيل عالم مختلف عمّا ورثوا، وشيخ هذه الأنوار جان جاك روسو، ولأجل ذلك فهو أكثر المكروهين من «الأنوار المضادة». جازف روسو بتنحية أصل الشرّ عن الطبيعة البشرية، وألحقه بالهياكل الإجتماعية وحدها. صحيح أنه لا يمكن احتسابه في عداد منظّري حتمية «التقدّم» في التاريخ، الا أنّ سترنهل ينحّي الرأي القائل بتشاؤمية روسو أيضاً، طالما أنّ صاحب «خطاب في أصل اللامساواة بين البشر» يقول بالإنتزاع المتواصل للحرية من براثن المحدّدات الطبيعية والإجتماعية، بالعقد الإجتماعي الذي يجد مسنده في فلسفة الحق الطبيعي. بالنسبة للأنوار، ليس لتوالي العصور ولا لإختلاف الأقاليم أثر على عقل الإنسان بحد ذاته. وما يختلف من عصر إلى آخر هو قدرة الإنسان على اكتشاف المناهج العلمية وتسخيرها لتغيير أوضاعه الإجتماعية، وقدرته على اجتراح سيادة العقل، وعلى استقلالية الإنسان الفرد. لكن العقل البشري يبقى ثابتاً بحد ذاته في مقال الأنوار. هذا الثبات هو ما يغتنمه سترنهيل للردّ على التهمة بأنّ أفكار روسو كانت ترمي إلى انشاء انسان جديد، وبالتالي هي مسؤولة عن النزعات التوتاليتارية التي تريد محو انسان وصناعة آخر. ربطت الأنوار إذا بين قناعتين، أن الإنسان هو نفسه من «الإنسان البرّي» إلى الإنسان المتمدّن، وأنّ الإنسان في الوقت نفسه يمكنه أن يظلّ يتحسّن. يندرج ضمن هذه الأنوار فولتير وروسو قبل الثورة الفرنسية، وكانط الألماني الذي عاصرها وناصرها رغم صدمته حيال «فترة الإرهاب» فيها، من دون أن تدفعه هكذا صدمة إلى مراجعة نصرته لها. في الوقت نفسه، ما كان بإمكان كانط أن يقرّ للأفراد بحقّ مقاومة السلطة السياسية في دياره، وموقفه جاء متأخراً عن توماس هوبز الذي قال بخسارة السلطة علّة وجودها إذا وضعت حياة الفرد في خطر. رأى كانط في روسو «نيوتن الأخلاق» لأنه أول من جعل الحرية مبدأ للأخلاق، لكنه لم يدرج من جانبه «الحق في التمرّد» من ضمن حقوق الإنسان. استعاض عنه كانط بحقّ الإنسان في ممارسة النقد تجاه السلطان، حقّه في بثّ الأنوار كحرية تفكير لمواطنين غير عنيفين. لأجل هذا، كان الجناح الفرنسي من الأنوار أكثر جذرية من كانط، وانصبت عليه، وعلى روسو خصوصاً، كل اتهامات السلسلة التي يتعقبها سترنهل على مدى قرنين ونيف من أعداء الأنوار، وفي طليعتهم هردر. يتتبع سترنهل الأنوار المضادة من فيكو، إلى هردر، إلى بيرك وكارليل وايبوليت تين ورينان وسوريل وشبنغلر وماينكه، إلى قزحيا برلين نفسه، بل يصيب أيضاً حنة ارندت بشظاياه أيضاً. في المقابل، يبرئ سترنهل مؤرخ الفلسفة السياسي ليو شتراوس (ت 1973) من شجرة النسب المعادية للأنوار هذه، كون شتراوس نزع الى مناقضة الأنوار الحديثة من موقع البحث عن أنوار أكثر عقلانية منها في العصرين القديم والوسيط، وليس من موقع التفريط بالعقل للنزعة النسبوية الثقافية. في كل هذه السردية التي ينسجها سترنهل، يبقى هردر بمثابة «العدوّ الأساسي» له، وروسو بمثابة «بطله الإيجابي الأوّل». فكّك حجة المنافحين عن هردر بدعوى أنّ الأخير قال بالمساواة بين الشعوب على قاعدة صون الخصوصية الثقافية التي تنعزل فيها كل واحدة منها. اعتبر سترنهل بأنّ التعددية الأقوامية عند هردر كانت تتوقف عند حدود فرنسا، حين ناقض بين الفتوة الألمانية وبين فرنسا الهرمة، ورأى في الثقافة الفرنسية انعدام أصالة وكثرة رياء ومبادئ مجرّدة لا روح لها ولا دمّ. لم تكن النسبية الثقافوية لدى هردر سوى واجهة للتراتبية بين الأقوام والشعوب، ولنظرة ترى أن لكل أمة جسدا جماعيا لا تعدّدية فعلية داخله، ولكل أمة روح داخلية لا تستطيع مشاركة قيمها الصميمية مع الأمم الأخرى. ضعّف سترنهل من حجّة أنّ هردر هو الأب الروحي لمعاداة الإمبريالية الثقافية. في الوقت نفسه أسقط مفهوم الإمبريالية تماماً من حسابه، سواء في النظر للأنوار أو الأنوار المضادة، أو للفاشية أو للصهيونية. هذا بخلاف حنة ارندت، التي وظّفت هذا المفهوم، وأفردت له جزءاً من ثلاثة في «أصول التوتاليتارية»، وهو ما يحتاج لخوض آخر في سترنهل ودلالات أثره. القدس العربي