لم تعد الخشية التي تراود الحريصين على شأن الأمة وقضاياها المصيرية محصورة بالقلق من تواصل التداعي السياسي الناجم عن مشروع التطبيع مع قوات الاحتلال الصهيونية، بل اصبحت تتعمق بعد أن بدأ المطبّعون ينتهجون سياسات قمعية غير مسبوقة مؤسسة على مفاهيم مقلوبة وقيم مستقاة من مستلزمات التطبيع نفسه. وفي الاسابيع التي اعقبت توقيع الاتفاقات بين الإماراتوالبحرين من جهة و «إسرائيل» من جهة اخرى اقدمت حكومات السعودية والبحرين ومصر والإمارات على المزيد من اعمال القمع شملت اعدامات بالجملة واعتقالات بالعشرات واصدار قوانين تجرّم انتقاد التطبيع او اعتباره «خيانة». وبهذا يتأسس واقع جديد معاكس تماما لما كانت الشعوب العربية تتطلع اليه عندما انطلقت ثورات الربيع العربي قبل عشرة اعوام. وقد أدت اساليب قوى الثورة المضادة التي استخدمت لإجهاض أكبر مشروع شعبي عربي لتحقيق تغيير سياسي في المنطقة الى اوضاع مأساوية في اوساط الشباب الذين شعروا بخيبة الامل وانسداد أفق التغيير الايجابي امامهم، وذلك كله بموازاة تداع اقتصادي شمل اغلب الدول التي شهدت حراكا سياسيا آنذاك. ولم يكن صدفة ان تظهر فجأة ظاهرة الهجرة الى الغرب التي اصبحت تقلق اوروبا بشكل كبير، وكانت من أسباب صعود مجموعات التطرف اليمينية وانتشار الظاهرة الشعبوية الخطيرة. وهكذا يتضح أن اجهاض الثورات العربية كان مشروعا عملاقا لم ينحصر بالقضاء على ظاهرة الاحتجاج وإبعاد الشباب عن الميادين والساحات العامة فحسب، بل استهدف القضاء على صحوة الضمير ويقظة الروح لدى الأجيال العربية التي انتفضت من اجل الحرية والكرامة واسترجاع الفضاء العام الذي اقصيت عنه عقودا. ونظرا لشدة الضربة التي وجهتها قوى الثورة المضادة للوعي العربي، فقد أصابت اهم القطاعات المجتمعية ذات الصلة بالوعي والتحرك السياسي والصحوة السياسية والاندفاع للتغيير. ماذا يعني ذلك؟ الأمر المؤكد أن التغيير يعني استمرار تدفق الدم في شريان المخلوق الحي، وبدونه يحدث التخثر وذلك يؤدي للوفاة. صدرت مؤخرا نتائج استطلاع لرأي الشباب العربي 2020 من قبل شركة الأبحاث الدولية «بي إس بي» في دبي لاستقصاء آراء ومواقف الشباب العرب في 17 بلداً بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أجريت الدراسة الرئيسية خلال الفترة بين 19 يناير و3 مارس 2020 قبل انتشار جائحة «كوفيد 19» في المنطقة. وشملت إجراء 3400 مقابلة شخصية باللغتين العربية والإنكليزية من قبل محاورين متمرسين. وبرغم ان الجائحة هيمنت على نتائج الاستطلاع الا أنه عرض عشر نتائج مهمة، اولها ان نصف الشباب العربي تقريباً فكر بمغادرة بلدانهم؛ وثلثهم يميل أكثر إلى الهجرة بفعل تداعيات «كوفيد-19». ثانيها أملاً بالتغيير، يدعم الشباب العربي في الدول المضطربة الاحتجاجات المناهضة لحكوماتهم؛ وقد يؤدي «كوفيد 19» إلى تأجيج الاضطرابات السياسية. ثالثها ان مكافحة الفساد الحكومي أولوية رئيسية للشباب العربي؛ وغالبيتهم تقول إن الفساد لا يزال مستشرياً بالرغم من الجائحة. وجاء من بين النتائج ان الدين يحتل موقعا أعمق لهوية الشباب العربي من الانتماء العائلي أو الوطني. وعلق بعض المختصين على الاستطلاع مشيرا الى حالة الاحباط التي تنتاب الكثير من الشباب في ضوء ما حدث لثورات الربيع العربي من قمع تواصل حتى بلغ مستويات غير مسبوقة. هذا القمع مهّد لتغييب الرأي المعارض للسياسات الرسمية العربية التي لم تخضع يوما للمناقشة العامة او التقييم او النقد من قبل الرأي العام. ففي غياب منظومة حكم تؤدي لقيام دولة عصرية ما يزال المواطن العادي يعيش على هامش الحياة، فلا يُعامل كإنسان له حقه في الشراكة السياسية والمساواة امام القانون، ولا يملك مقوّمات العيش الكريم في ظل فساد سياسي واداري ومالي بدون حساب. هذا المواطن الذي ثار ضد الاستبداد قبل عشرة اعوام في تونس ومصر واليمن وسوريا او ليبيا او البحرين وتعرض للقمع على ايدي اجهزة قوى الثورة المضادة او تعرض بلده للانتقام من هذه القوى وتم توريطها في حروب داخلية او خارجية، يجد الابواب امامه موصدة، فيحاول الفرار بجلده الى عالم آخر، مع علمه بالمخاطر التي تنتظره وسط البحار والمحيطات وعلى حدود الدول التي ترفض استقبال المهاجرين. لقد أصبح واضحا أن المواطن العادي في اغلب بلدان الربيع العربي كان الخاسر الاكبر. هذا ما تؤكده الاوضاع الانسانية المروّعة في بلدان مثل سوريا واليمن التي استهدفت من قبل قوى الثورة المضادة لتجعلها عبرة للآخرين. فسوريا تحوّلت الى أنقاض نتيجة حرب مروّعة استمرت ثمانية اعوام شارك فيها أطراف عديدة: النظام والمجموعات المسلحة والإرهابية وبلدان اخرى تدخلت خصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكانت النتيجة تمزيق البلد وشعبه، ونزوح أكثر من مليوني سوري من ارضهم. وتلاشى دور سوريا الإقليمي تماما، كدولة مواجهة مع الكيان الإسرائيلي بعد ان كانت ملاذا للمناضلين الفارين من حكوماتهم، وصخرة قوية امام الصلف الصهيوني. اما اليمن فتعرض لعقوبة صارمة من قوى الثورة المضادة عندما تمرد على ما يسمى «المبادرة الخليجية» وشُنت عليه حرب ضروس ما تزال مستمرة منذ 2015. انها عقوبات قاسية لكل من سوّلت له نفسه المشاركة في الحراكات الثورية العربية التي كانت، يومها، مصدر أمل بالتغيير. وفي بلدان اخرى مثل مصر والبحرين، تم الانتقام من النشطاء بأنماط متشابهة تبدأ بالاعتقالات التعسفية الجماعية، وتمر بوجبات التعذيب بشتى اصنافه، وتصل الى عقوبة الاعدام. وفي الاسبوع الماضي أعدم نظام السيسي 15 مواطنا ادينوا ظلما في محاكمات جائرة. وبلغ صف الحكم العسكري ان انقلب على خيار الشعب وضيق على الرموز في السجون حتى مات كبارهم ومن بينهم الرئيس المنتخب محمد مرسي. اما البحرين فهي الأخرى بطشت بمعارضيها بقسوة، فاعتقلت الآلاف وعذبتهم واعدمت عددا منهم، وسحبت الجنسية من المئات، وقامت بنفي العشرات، كما اغلقت مؤسساتهم السياسية والدينية. وفي مقابل هذا التوحش في التعاطي مع الثورات والمشاركين فيها، لم يصدر عن «العالم الحر» مواقف صريحة او استنكارات حقيقية، الأمر الذي أصاب منظومة حقوق الإنسان في مقتل. فقد اتضح خواء الشعارات الغربية التي استخدمت ترويج الديمقراطية واحترام حقوق الانسان شعارين اساسيين بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الشعاران سلاحا ماضيا خلال الحرب الباردة لمواجهة الاتحاد السوفياتي والحد من نفوذه في العالم. لكن ما ان تفكك ذلك الاتحاد حتى تراجع الغربيون عن حماسهم للشعارين. ففي الاسبوع الماضي مرت الذكرى الثانية لقتل الإعلامي السعودي، جمال خاشقجي الذي تعرض لاعتداء وحشي داخل قنصلية بلاده في اسطنبول. وبرغم التظاهر بالاهتمام والشجب في بداية الامر، فقد تراجع الغربيون عن اي اجراء حقيقي ضد الرياض، وتركت زوجته التركية المثكولة، لتعيش ألم فراقه مدى العمر. التقرير المذكور يؤكد حالة اليأس لدى قطاع واسع من الشباب العربي، هذه الحالة يؤكدها الانكفاء عن الشأن العام، ويزيد من حدتها غياب القيادات الفاعلة التي تهيئ الاجواء لاستعادة الثقة وبناء النفس واعادة صياغة الأولويات والأهداف. هذه القيادات تعيش اما في السجون او في المنافي. ومن بقي منها في الفضاء العام داخل بلده، فهو ممنوع من التفوه بكلمة انتقاد واحدة. فهل يستطيع أحد في البحرين مثلا ان ينتقد قرار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؟ في الاسابيع الاخيرة اعتقلت الأجهزة الأمنية في البحرين عددا من المواطنين ومنهم علماء دين وخطباء ومغردون بسبب انتقادهم قرار التطبيع. القدس العربي