في السنوات الأخيرة كرّر السياسيون البريطانيون، ومنهم رئيس الوزراء الحالي، شعارا يقول إن سياستهم في الوقت الحاضر تهدف لجعل بريطانيا «قوة علمية عظمى» ومن المؤكد أنه شعار يبدو في ظاهره واعدا ومشجعا للأجيال الناشئة وكذلك مؤسسات البحث العلمي. ولكن هذا الشعار لا تدعمه الوقائع التي تعيشها المؤسسات العلمية البريطانية والتي دفعت بعضها لتوسيع نشاطاتها خارج الحدود، والتحالف مع أنظمة استبداد لا يليق تمتين العلاقات معها. وفي الأسبوع الماضي أعلنت جامعة كامبريدح (إحدى أعرق المؤسسات العلمية البريطانية) عزمها على الدخول في خطط تعاون مع دولة الإمارات العربية المتحدة تحصل بموجبها على 400 مليون جنيه استرليني. وقالت صحيفة الغارديان إنها اطلعت على وثائق تؤكد أن التعاون لمدة 10 سنوات من شأنه أن يساعد كامبريدج، وهي واحدة من أغنى مؤسسات التعليم العالي في المملكة المتحدة، «على مواجهة التحديات التي تواجهها الجامعات نتيجة لكوفيد-19 وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبيئة التمويل المحدودة». ولم تمر الصفقة بعد على المجلس العام للجامعة، حسب ما نقلته الغارديان. وقد وصف جو جريدي، الأمين العام ل «اتحاد الكلية والجامعة» الاتفاقية المزمعة بأنها «مخزية» و«مشوبة بالمشاكل». والسؤال هنا: هل أن كامبريدج هي المؤسسة التعليمية الوحيدة المستعدة للتعامل مع حكومات مستبدة تلطخت سمعتها بانتهاكات حقوق الإنسان؟ منتصف مارس 2011 دعا نائب بريطاني إلى التحقيق في صفقة أبرمت عام 2003 في لقاء تم بين مسؤولين من جامعة إكسيتر البريطانية نظام معمر القذافي بقيمة 75 مليون جنيه إسترليني (نحو 120 مليون دولار). ودعا النائب روبرت هالفون الحكومة البريطانية إلى فرض غرامات على الجامعات التي تتلقى الأموال من «الأنظمة الاستبدادية». ودعا النائب المذكور لتعقب ما أسماه «الأموال الضخمة التي تدفقت من دكتاتوريات الشرق الأوسط إلى الجامعات البريطانية». وفي العام 2011 قالت تقارير أن مؤسسة تابعة لنجل القذافي قدمت لمدرسة لندن للاقتصاد (LSE) تبرعا بقيمة 1.5 مليون جنيه استرليني، وأسفر قرار القبول عن استقالة مدير الجامعة السير هوارد ديفيس. ويؤخذ على مدرسة لندن للاقتصاد تساهلها في شروط الالتحاق لقبول أبناء زعماء الدول وشخصياتها النافذة، حتى لو كان أولئك الزعماء ديكتاتوريين أو لصوصا. ومثال ذلك قبولهم سيف الإسلام القذافي وابنة الممثل المصري أحمد عز. يومها انتقدت صحيفة «تايمز» البريطانية في افتتاحيتها كلية لندن للاقتصاد، في ظل الاتهامات بأنها أجرت اتفاقات مشبوهة مع النظام الليبي الذي وصفته بأنه دكتاتوري، ووسط مزاعم بأن سيف الإسلام القذافي مارس الغش لنيل درجة الدكتوراه من الكلية المشهورة. وأشارت الجريدة إلى قول مشهور للفيلسوف البريطاني كارل بوبر يتمثل في أن المعرفة والعلوم والحرية كلها مفردات تعتمد في ثباتها وفي كينونتها على مدى قدرتها على التمييز بين المجتمع الحر وأعداء ذلك المجتمع. وأوضحت الصحيفة أنه لا يبدو أن الكلية كانت قادرة على إدراك ذلك التمييز الذي وصفه الفيلسوف أو فهم أهميته، مضيفة أنه ينبغي للكلية أن تعرض في الأسابيع الأولى من الفصول الدراسية لديها دروسا عن «الدكتاتورية القاتلة» التي مارستها وتمارسها عائلة القذافي ضد أبناء الشعب الليبي الأعزل على مدار عقود، وذلك في المساقات والمواضيع المتعلقة بالعلوم السياسية والتاريخ والفلسفة الأخلاقية التي تقدمها الكلية المعروفة. وأشارت التايمز إلى المعاناة والحرج الكبير الذي تواجهه الكلية وهيئاتها الإدارية والتدريسية، في ظل المزاعم بأن أطروحة سيف الإسلام لنيل الدكتوراه من الكلية المعروفة تضمنت نصوصا مسروقة وأفكارا لآخرين، تقدم بها وكأنها من بنات أفكاره.كما واجهت الكلية التابعة لجامعة لندن تحقيقات بسبب ارتباطات مالية مع نظام القذافي في ليبيا، حيث ظهر أنها أمّنت اتفاقية بمليون جنيه إسترليني لتدريب المئات من أفراد النخبة المستقبلة «لدكتاتورية القذافي» وفي العامين الأخيرين أثيرت قضية أخرى ذات صلة. هذه المرة كانت جامعة «هادرسفيلد» محور اهتمام إعلامي وحقوقي بسبب علاقاتها مع حكومة البحرين. ففي اكتوبر الماضي دعا أكثر من أربعين أكاديميًا من دول مختلفة الجامعة إلى تعليق برنامج درجة الماجستير الذي تديره «الأكاديميّة الملكيّة للشرطة» في البحرين. وقال موقع «يوركشير بوست» في تقرير له بتاريخ 8 أكتوبر/ تشرين الاول 2020، أن هذا البرنامج مثيرٌ للجدل بعد انتشار معلومات تفيد بتعرّض العديد من السجناء السياسيين للتعذيب وسوء المعاملة في مبنى الأكاديميّة الملكيّة للشرطة في البحرين.وأضاف أن دورة الماجستير في علوم الأمن، التي تضمّ محاضرين من جامعة هيدرسفيلد لتدريب عناصر الشرطة في البحرين بدأت منذ عام 2018، ولكن تلاحقها أنباء تؤكد أن الأكاديميّة قد استُخدمت كمركز تعذيب- حسب تعبيره. وقد أدلى مواطنون لاجئون في بريطانيا بشهادات عن تعرضهم للتعذيب في «الأكاديمية الملكية الشرطة» عندما كانوا معتقلين، وأبدوا امتعاضهم وغضبهم من إصرار الجامعة على الاستمرار في إدارة تلك الدورة التي تعقد في مركز معروف بممارسة ضباطه التعذيب بحق سجناء الرأي. وثمة جانب آخر تجدر الإشارة اليه، لا يقل خطرا عن الارتباط بأنظمة الاستبداد للحصول على أموال مبيَضة لدعم المشاريع العلمية. ولو كانت هناك رقابة ومحاسبة حقيقية للسياسات الحكومية لاتخذت إجراءات لمنع تفاقم الظواهر السلبية. ففي شهر اكتوبر الماضي نشر موقع بريطاني اسمه «أنقذوا الطالب» نتائج استقصاء إحصائي شمل 3300 من طلبة الجامعة وطالباتها وأحدث هزة ضميرية لدى الكثيرين. فقد وجد أن الطلبة يلجأون لبيع الجنس من أجل الحصول على المال لسد احتياجاتهم الطلابية. ونشرت الصحف نتائج الاستقصاء، كما فعلت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) التي أجرت مقابلات مع بعض الطالبات وأمهاتهن. قالت إحداهن: «كنت مضطرة للمال ليس من أجل البذخ بل ببساطة من أجل أن أعيش: شراء الطعام والكتب الدراسية ودفع الفواتير». وقال جيك باتلر، الخبير بالموقع المذكور: «لقد تضاعف عدد الطلاب الذين يمارسون أعمال الجنس في العامين الأخيرين، وهو أمر مرعب ويدعو للقلق». فما هذا النظام السياسي والاقتصادي الذي يخلق الظروف التي تروّج الدعارة والانحراف في أوساط الجيل «العلمي» الذي يفترض أن يجعل بريطانيا «دولة علمية عظمى»؟ هذا في الوقت الذي لا تشهد فيه موازنات الدفاع والأمن خفضا أبدا. ويكفي الاشارة إلى بناء حاملتي طائرات (اج ام اس الملكة إليزابيث و إج ام اس أمير ويلز) بتكلفة تصل إلى سبعة مليارات لكلتيهما. وتشتري الحكومة البريطانية عشرات الطائرات الأمريكية من نوع أف 35 تصل تكلفة كل منها الى 150 مليون دولار. وهناك جانب خطير في هذا السياق وهو التعاون بين الجامعات البريطانية والكيان الإسرائيلي. فقد مورست ضغوط كثيرة على الجامعات والأكاديميين الذين قاطعوا الجامعات الإسرائيلية في العقود الماضية، حتى خفت تلك المقاطعة او تلاشت. وفي 20 مايو الماضي نشرت صحيفة «تريبيون» البريطانية تحقيقا أكدت فيه أن الجامعات البريطانية استثمرت 455 مليون جنيه استرليني في شركات تدعم الاحتلال. وقام الطلاب بحملات تضامنية مع الفلسطينيين وأكدوا عزمهم على تنقية الجامعات من هذه السياسات. وقالت «حملة التضامن مع الفلسطينيين» البريطانية: «إن المؤسسات التي يفترض أن تتصرف بأخلاق تستثمر الأموال في شركات تساعد انتهاكات حقوق الإنسان، وهذا انتهاك للمسؤولية الاخلاقية التي يفترض أن تمارسها الجامعات». ماذا تعني هذه الحقائق؟ ما معنى مبادرة رئيس الوزراء لجعل بريطانيا «قوة علمية عظمى» إذا لم ينجم عن ذلك العلم استيعاب حقيقي لقيم الحضارة والإنسانية وأهمها الحرية واحترام حقوق الإنسان؟ فما قيمة الحضارة إذا اضطهدت الإنسان؟ وما معنى العلم إذا نجم عنه تصدع للقيم والأخلاق والمبادئ؟.