لم تتوقّف إيديولوجيا الفرد ومركزيّتُه عن التّعبير عن نفسها، في حقبة ما بعد الأنوار، في الخطاب الفلسفيّ اللّيبراليّ على الرّغم من موجة النّقد الحادّ التي أطلقتها الهيغيليّة والماركسيّة للمفهوم، وللمنوال السّياسيّ الذي يحتلّ فيه الفرد مكانة معتَبَرة. وعلى الرّغم من أنّ تجربة الثّورة الفرنسيّة أتت تشدّد على بُعد المساواة أكثر من حريّة الفرد، وعلى الإرادة العامّة والسّيادة الشّعبيّة أكثر ممّا اعتنت بحقوق الأفراد. ومردّ ذلك إلى أنّ إيديولوجيا الفرد اللّيبراليّة لم تكن، ساعتئذٍ، قد استنفدت نفسَها وأسبابَ مشروعيّة وجودها؛ فهي كانت محمولةً على حقيقة موضوعيّة كبرى تغذّيها (هي النّظام الرّأسماليّ وعقيدة المُلْكيّة الخاصّة المقدّسة) وتوفّر لها الشّرط المناسب للفُشوّ والنّفاذ في الميدان الاجتماعيّ الأوسع. وإلى ذلك لم تكنِ الأنظمةُ السّياسيّة في أوروبا قد اتّخذت، جميعُها، وِجهة النّظام الفرنسيّ، الذي أنجبته الثورة، ولا تخلّت عن الكثير من يقينيّات اللّيبراليّة في التّنظيم الاجتماعيّ والسّياسيّ؛ الأمر الذي عزّز حظوظ تلك الإيديولوجيا في البقاء والمقاومة. وقد يقال إنّ مثل هذا النقد لفكرة الفرد ما كان له أن يكون وأن ينطلق إلاّ من بلدٍ مثل ألمانيا؛ لأنّ التّقليد الفلسفيّ فيها، منذ هردر وغوته وشلينغ، لا يُفسح مكاناً للحديث عن الفرد (في النّظام الاجتماعيّ والسّياسيّ)، بل لا يعتني سوى بالجماعات الكبرى (الشّعب، الأمّة، المجتمع، الدّولة ثمّ – مع ماركس – الطّبقات الاجتماعيّة)؛ ولأنّ ألمانيا كانت تعيش مخاضها الكبير، في نهاية القرن الثّامن عشر وخلال شطرٍ طويل من القرن التّاسع عشر، للانتقال من تجزئتها الكيانيّة إلى الوحدة القوميّة؛ من دولة بروسيا إلى الدّولة الألمانيّة الموحّدة. وهذا صحيحٌ إلى حدّ؛ ولكن: ألم يكن أحد كبار فلاسفتها (إيمانويل كَنْت) من المدافعين عن حريّة الفرد؛ مثل الفلاسفة الإنجليز والفرنسيّين؟ ثمّ ألم يكن موقفُه موضعَ نقدٍ من هيغل وماركس بوصفه من فلاسفة الأنوار أيضاً؟ الأهمّ من هذا أَلَمْ ينطلق الدّفاع عن حريّة الفرد من داخل فرنسا الثورة نفسِها؛ ألم يكن أليكسي دو توتكڤيل الصّوت الفلسفيّ الأعلى جهراً بذلك الدّفاع؟ إنّه هو من قدّم تلك المطالعة النّقديّة العميقة لتجربة الثّورة الفرنسيّة والنّظام السّياسيّ الذي انبثق منها، الذي تضمَّن – في ما تضمّنه- نقد موقفها من الحريّات الفرديّة. صحيح أنّ نقد توكفيل ينهل مصادره من الفلسفة الإنجليزية ومن انبهاره بالتّجربة السّياسيّة الأمريكيّة، لكنّه نقدُ فيلسوفٍ فرنسيّ، في المقام الأوّل، لم يكن يعنيه من الحريّة حريّةِ التّفكير والتّعبير فقط – مثل مواطنه فولتير: فيلسوف الأنوار- بل الحريّة السّياسيّة التي وُئِدتْ، في نظره، من نظام "الاستبداد الدّيمقراطيّ" الذي أنجبته الثّورة. على أنّ الدّفاع الفلسفيّ الأكبر عن الفرد، بل النّهوض بعبء إعادة بناء إيديولوجيا الفرد اللّيبراليّة يعود إلى جون ستيوارت مِل: الفيلسوف والاقتصاديّ الإنجليزي. متسلّحاً برؤيته كاقتصاديّ منظَّر للنّظام الاقتصاديّ الرّأسماليّ وللمُلكيّة الفرديّة؛ ومستنداً إلى فلسفة جون لوك (إطاره المرجعيّ) وإلى مركزيّة مسائل الفرد والحريّة والمُلكيّة والحقوق المدنيّة في فلسفته، وَضَع مِلْ دراسته عن الحريّة، في منتصف القرن التّاسع عشر، ليكرّسها مرافَعةً فلسفيّة عن الفرد وحقوقه وحريّاته بعد أن تراءى له أنّها باتت مهدَّدة بالمحو في أوروبا كلِّها – بما فيها وطنه بريطانيا- لا في فرنسا وحدها. يمكن النّظر إلى عمل مِلْ بوصفه تأسيساً لموجةٍ ثانية من الفردانيّة في الفكر السّياسيّ الغربيّ، وتدشيناً لنقد نموذج الدّولة الوطنيّة. لكنّه أتى ذلك كلّه من مدخلٍ رئيس: نقد تدخّل المجتمع والدّولة في حياة الفرد وحريّته وحقوقه. لا يعاني المجتمع الحديث، في رأي مِل، تَسَلُّطَ نظامٍ سياسيٍّ قائمٍ على تمثيلٍ مغشوش ينتهي به إلى توليد طغيان الغالبيّة، وتشريع الاستبداد باسم الدّيمقراطيّة فقط، بل يعاني، أيضاً، طغيانَ مجتمعٍ وقَهْرَهُ الفردَ وحريّاته باسم القيم الاجتماعيّة العامّة. إنّ الطّغيان الاجتماعيّ هذا أسوأ، عنده، من الطّغيان السّياسيّ؛ إذِ الأخير قابل لأن يُرَدّ بالاحتكام إلى القوانين وما تنصُّ عليه من حقوقٍ وحريّات للأفراد، أمّا الطّغيان الاجتماعيّ فلا يملك الأفراد ردّه عليهم وكفَّ نتائجه، لأنّ الفرد يصطدم فيه بثقافةٍ سائدة ومنظومة قيم عامّة مغلقة. على أنّه ما من معنًى يمكن أن يُدْرَك من ظاهرة الدّفاع عن الفرد ضدّ المجتمع والدّولة، مع جون ستيوارت ومَن سار على منواله من اللاّحقين، سوى أنّ اللّيبراليّة ودولتَها واقتصادَها لم تَقْوَ على تحجيم المجتمع والدّولة، وعلى تمكين الفرديّة من السّلطان الماديّ على الرّغم من سيطرة إيديولوجياها على سلطة الدّولة لعقودٍ عدّة. إنّ التّشنيع على المجتمع والدّولة، في الفلسفات المدافعة عن الفرد وحرّيته واستقلاله وسيادته على نفسه – نظير فلسفة جون ستيوارت مِل – (بل ولدى الدّولة اللّيبراليّة)، لا يعني سوى أنّ اللّيبراليّة لم تُحْرِز نجاحاً يُذكر في أن تغيّر من الحقائق السّوسيولوجيّة والسّياسيّة في الاجتماع الإنسانيّ شيئاً، ولم تنجح في عمليّتها القيصريّة التي أرادت بها إحلال الفرد محلّ المجتمع والدّولة، وهي إعادة هندسة الاجتماع السّياسيّ على منوالٍ جديد. سكاي نيوز عربية