من النّافل القول إنّ وراء الثّقافة والفكر فاعلٌ صانع لا يَكون أيٌّ منهما من دونه، هو المثقّف الأديب أو الفنّان والباحث أو المفكّر. إذا عدم وجود هذا الفاعل أو شَحَبَتْ صورتُه، لا تكون ثقافةٌ ومعرفة أو، إنْ كانت، تنتحي ركناً هامشيّاً من الاجتماع. وحينها – حين الغياب أو الضّمور للفاعل الصّانع – لا تنفع الإمكانيّات الثّقافيّة الموضوعيّة وإن عظُمت شأناً وحجماً؛ لأنّ من يقع من صنْعة الثّقافة موقعَ المحرِّك والحائك هو في حكم المعطَّل، الذي بعطالته يتعطَّل فعْلُ تلك الإمكانيّات والأثَرُ المنتَظَر منها. تنصرف الملاحظةُ السّابقة إلى التّذكير ببديهيّة في ميدان الثّقافة؛ الثّقافة فاعليّةٌ ذاتيّة يقوم بها منتِج مقتدِر على الإنتاج بالأدوات الخاصّة بهذا النّوع من الإنتاج (اللّغة، الأصوات، الصّورة، الحركة…). والاقتدار هذا – الذي هو شرطٌ ليكون منتِجاً – يَرُدّ إلى حيازة المقتَدِر لبضاعةٍ ثقافيّة ابتداءً – أدبيّة أو فنيّة – ولقابليّة توليدِ أثرٍ أدبيّ أو فنّي جديد ممّا لديه من مخزون ثقافيّ. والغالب على مبتَدَإ هذه الفاعليّة أن يكون فرديّاً، أو من عملِ فردٍ واحد، ثمّ لا يلبث أن يتكثَّر الواحدُ ليصبح جمْعاً متشاركاً – بتفاوُتٍ – في صنع الأثر الأدبيّ أو الفنّيّ (فيلم، مسرحيّة، عمل أوركستراليّ، عمل كاريغرافيّ راقص…). عند هذه العتبة من إنتاج الأثر الثّقافيّ ينْماز ما هو ذاتيٌّ صرف، في عمليّة الخلق والإبداع، عمّا هو ذاتيٌّ يَعْتَاز إلى شرطٍ موضوعيّ لتكتمل فعاليّته. لا نعني بالشّرط الموضوعيّ في حالة الموسيقا والغناء، مثلاً، أن يوجد عازفون على الآلات الوتريّة والنّحاسيّة والإيقاعيّة ومغنّون ومغنيّات وكَوْرس، لأنّ هؤلاء جميعاً كفاءات ذاتيّة؛ ولا نعني به في السّينما أن يوجد ممثّلون ومتخصّصون في الكاميرا والإنارة وغيرها؛ ولا في المسرح الرّاقص أن يوجد راقصون وراقصات؛ فهؤلاء أيضاً كفاءات ذاتيّة… حتّى وإن كان مبْنى أدائها على فاعليّة المنتج الأوّل (= الموسيقيّ، أو المخرج السّينمائيّ، أو مهندس الرّقْصات…)، إنّما نعني أن توجد معاهد ومدارس تكوِّن هؤلاء وتؤهلهم – كلٌّ في ميدانه -، ومسارح وقاعات عرض، ومؤسّسات لإنتاج الأعمال الفنيّة وأخرى لتسويقها… لكي يزدهر الأثر الثّقافيّ. والحقّ أنّه حتّى الأثر الثّقافيّ الذي يتولّد من عملٍ فرديّ صرف، ولا يتطلّب – بالضّرورة – إخراجاً في شكل عملٍ جماعيّ، مثل الإنتاج الشّعريّ أو الرّوائيّ أو القصصيّ أو التّشكيليّ أو إنتاج المنحوتات…إلخ، يحتاج – هو نفسه – إلى شرطٍ موضوعيّ تتوفّر له به الأسباب لكي يتأدّى على النّحو الأمثل، ويصل إلى جمهور المتلقّين. هل يسعنا، مثلاً، أن نتصوّر إمكاناً لازدهار الفنّ التّشكيليّ أو النّحت من دون وجود متاحفَ تحتفي بهذه الآثار الفنيّة وتَعْرضها على الجمهور؟ وهل من شعْرٍ يزدهر من دون مهرجانات شعريّة؛ وهل له – هو والرّواية والقصّة والنّصّ المسرحيّ المكتوب – أن يزدهر من دون مؤسّسات للنّشر والتّوزيع تحمله إلى الآفاق، وتُخْرِجه من فرديّته المحضة إلى جماعيّته؛ إلى سياقاتٍ تداوُليّة يصير فيها مُلْكاً عامّاً لقرائه وللمجتمع؟ ثمّ، فوق هذا وذاك، هل لنا أن نتخيّل إمكانَ ازدهارٍ ثقافيّ من دون تشريعات مناسبة للقطاع الثّقافيّ، أو في ظلّ تشريعات متخلّفة تقييديّة وكابحة، ومن دون إنفاق رسميّ على هذا القطاع؟ أينما قَلَّبْت مسألة الثّقافة وشروطِها تجد في قلبها مركزيّةَ العامل الموضوعيّ لها؛ العامل الحامل لها إلى نطاقاتها الاجتماعيّة التي إليها يتوجّه الإنتاج الثّقافيّ بأدواره ورسالته؛ وهو، للسّبب هذا، العاملُ – بل الشّرطُ – الذي لا غَناء لأيّ ثقافةٍ عنه؛ تَقْوى بوجوده وتضعُف بغيابه أو هشاشة بُناه. نعم، صحيحٌ ما قلناه عن أنّ مبْنى الثّقافة على اقتدار أهْلها؛ على دأبهم على التّحصيل وتوسيع صلاتهم بمصادر الثّقافة القوميّة – قديمِها والحديث – وبمصادر الثّقافات الإنسانيّة؛ وعلى تسلُّحهم بأدوات صَنْعة الكتابة وعُدَّتها، أو صنْعة الإبداع عموماً؛ وقطْعهم الشّوط والشّوطيْن في التّجريب وصولاً إلى حيازة اللّغة الخاصّة والمنوال الخاصّ؛ كما على عدم استسهالهم فعْلَ الإبداع وركوبهم السّهل فيه… إلخ. ومع ذلك كلّه، وعلى حيويّة الحاجة إليه لكينونة الإبداع، فإنّ حاجة الثّقافة إلى شرطها الموضوعيّ المناسب ممّا ليس يُداخِل عاقلاً الشّكّ فيه. يكفي، هنا، أن ندْرك أنّ الفارق بين الثّقافة العربيّة والثّقافات المتقدّمة – مثل الثّقافة الغربيّة – ليس، ولم يكن يوماً فارقاً في المَلَكَات والقرائح والاستعدادات، بل هو فارقٌ في الإمكانيّات الموضوعيّة لدى كلّ ثقافة في المقام الأوّل. وما أغنانا عن القول إلى أيّ حدٍّ تنعدم فيه للثّقافة العربيّة شروطُها الحاملة والدّافعة. يكفي المرء أن يلقي نظرةً على عدد معاهد التّكوين الموسيقيّ والسّينمائيّ والمسرحيّ، وعدد المسارح ودور الأوپرا وقاعات العرض، وعدد المدن السّينمائيّة للتّصوير، وعدد المهرجانات الشّعريّة، وعدد متاحف الفنّ التّشكيليّ والمنحوتات، وعدد دور النّشر الكبرى وشركات التّوزيع… ليقف على مقدار الفقر الحادّ إلى تلك الشّروط الموضوعيّة التي تعانيها الثّقافة العربيّة وتتأذّى من تأثيراتها السّلبيّة عليها الأذى الكبير. سكاي نيوز عرلية