علامات ومشاهد زيادة حضور وتأثير الذكاء الصناعي في مختلف أوجه حياة البشر باتت مسألة لا يمكن إنكارها، ولا التشكيك في زيادة أثره وقوته. وللكاتب الإسرائيلي المعروف يوفال نوح هراري، الذي كتب مجموعة مهمة جداً من الكتب التي تحدثت عن ماضي البشرية ومستقبلها، مقولات بالغة الدلالة والأهمية يحذر فيها وبشدة من السماح بطغيان الذكاء الصناعي على القرار البشري، ويستشهد بتفسير أدق وأعمق بتوضيح ما يقصد، فيضيف أن الذكاء الصناعي هو نتيجة برمجة مجموعة هائلة من البيانات الكبرى، ولكن إذا لم تكن البرمجة بريئة وموضوعية ومستقلة فإن مخرجاتها بالتالي ستكون موجهة ومتحيزة. وهناك العديد من الأمثلة المؤيدة لذلك، منها البحث «النفسي» في قرار شراء السلع والخدمات المقدمة على المنصات الإلكترونية اليوم؛ هل هو قرار مستقل أم موجه من قبل أدوات الذكاء الصناعي؟ الإجابة بطبيعة الحال ترجح أن القرار هو بتأثير من قبل الذكاء الصناعي، سواء أكان ذلك بصورة فجة مباشرة، أو بطريقة أقل وضوحاً ومستترة. ويضيف أحد أهم الكتاب المتخصصين في التقنية وعلاقتها بمستقبل الإنسان، تحديداً فيما يتعلق بالبيئة والنقل والغذاء، وهو الكاتب الكندي من أصول تشيكية فاسلاف سميل، الذي وصفه رجل الأعمال الأميركي المعروف بيل غيتس، بأنه «أهم كتاب ومفكري العالم اليوم، وأنه لا يفوت له أي إصدار»، يقول سميل إن الذكاء الصناعي سيكون المهيمن على قرارات واختيارات الإنسان في مجال النقل والغذاء، بمعنى أن الإنسان سيقاد في وسائل النقل بدلاً من أن يقود بنفسه، وسيتم الاختيار له الطرق والمتاجر والمطاعم في طريقه، وكذلك الأمر بالنسبة لخياراته الترفيهية والغذائية في طريقه. وهذه التحذيرات هي مجرد مقدمات لما يمكن انتظاره وتوقعه في المستقبل غير البعيد. ومعروف التأثير المتوقع للذكاء الصناعي على مجالات التصنيع والتخزين، واستبدال القدرات البشرية بنماذج دقيقة وشديدة الفاعلية من الإنسان الآلي المبرمج. ولكن القادم من الأيام يشير إلى هيمنة متعاظمة لأثر وتأثير الذكاء الصناعي على مجالات التعليم والترفيه والاقتصاد، خصوصاً في ظل الحديث المستمر عن تطورات والقفزات النوعية في مجالات التقنية الحديثة التي تخدم تطوير الذكاء الصناعي. لا يمكن اعتبار المعلومات التي تصلك على جوالك أو الإعلانات التي تقفز أمامك على شاشة هاتفك المحمول أو الموجزات الإخبارية التي تتردد على الهاتف بين يديك عشوائية وغير موجهة ومقصودة. بل هي جزء ممنهج من القدرات المتعاظمة للذكاء الصناعي في التأثير والتوجيه، فهذه القدرات ستكون لديها القوة على تغيير مذاقك وهواياتك واهتماماتك وآرائك وميولك وذوقك مع مرور الوقت والخوف من تعاظم هذا التأثير في تأثيره على القناعات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والعقائدية. وفي هذا السياق، تأتي كلمات المؤلف الأميركي المتخصص في شؤون التقنية جاكوب وورد، في كتابه المهم «الدائرة: كيف تستحدث التقنية عالماً بلا اختيارات وكيف يمكن مقاومة ذلك»، فهو يتوقع أن يكون العالم الجديد عبارة عن فقاعة متعة مليئة بالسلاسة والانسيابية، ولكنها خالية من الخيارات ومعبأة بالانقسامات والتحيزات والتعصبات. ولا يجب الإبحار بعيداً بالخيال لمعرفة ما هو قادم، فالأفكار المعلنة والمشاريع المصرح بها من قبل عمالقة شركات التقنية الكبرى من أمثال «غوغل» و«تيسلا» و«ميتا» و«أمازون» و«آبل»، على سبيل المثال لا الحصر، تشير وبوضوح تام إلى أننا مقبلون على عالم جديد تماماً… عالم مبني على التعرف بالأنماط والتأثير بالبرمجة المسبقة، وأن قرارات الإنسان المستقبلية مهما بدت في ظاهرها مستقلة وموضوعية هي غير ذلك تماماً. ومع تطور وتعدد خيارات التواصل مع الذكاء الصناعي بالنسبة للإنسان، وعدم حصرها في جهاز الهاتف المحمول، وفتحها لوسائل أخرى من القطع التي يرتديها مثل النظارة والسماعة والساعة والقلم والخاتم والحذاء والملابس سيكون الإنسان محاصراً تماماً بالتأثير غير البريء لقوى الذكاء الصناعي على قراراته واختياراته، وسيتخطى وقتها القرار المقصود بشراء كوب من القهوة بنكهة معينة في فرع ما لشركة ما، ليصل الأمر إلى التأثير على أي مرشح يتم التصويت له، أو في أي وعاء استثماري من الممكن أن تضع مدخراتك فيها، وغير ذلك من القرارات والاختيارات التي كان الإنسان يملكها وحده ليجد نفسه مسلوباً منها. مقبلون على عالم متغير وجديد ومختلف، البقاء فيه ليس للأقوى ولا الأذكى، لكن لكل من لديه الوعي والقدرة على إيجاد الأدوات للتعامل مع المتغيرات. الشرق الأوسط